في الوقت ذاته، فإن ممثلي الأحزاب اليسارية يتجاهلون تماماً إعلانات كل من رئيس الوزراء المنتهية ولايته، بنيامين نتنياهو، ووزير حربه نفتالي بينت، عن البدء في تنفيذ مشاريع لبناء آلاف الوحدات السكنية في المستوطنات؛ إذ إنهم لم يحتجوا على هذه المشاريع حتى بمسوغ أن حكومة نتنياهو تفضل الاستثمار في هذه المستوطنات على حساب الاستثمار في المناطق التي تعاني من ضائقة اجتماعية، وعلى وجه الخصوص في الأحياء الشعبية ومدن التطوير داخل إسرائيل. إلى جانب ذلك، فقد تجاهل اليسار الإسرائيلي قرار بينت منع الفلسطينيين من البناء في مناطق "ب" التي تمنح اتفاقية أوسلو صلاحيات إدارية للسلطة الفلسطينية فيها.
ولم تُقابَل الإجراءات التي تُقدم عليها الحكومة الإسرائيلية لاسترضاء غلاة المتطرفين داخل المستوطنات، بأي ردّ فعل جديّ من قبل قوى اليسار في أوج الحملة الانتخابية. فعلى سبيل المثال، تجاهلت الأحزاب اليسارية قرار بينت إلغاء قرار الاعتقال الإداري ضد أحد الإرهابيين اليهود، على الرغم من أن جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك" قدّم تقريراً مفصلاً عن العمليات الإرهابية التي شارك فيها هذا الإرهابي ضد الفلسطينيين.
لكن مما لا شك فيه، أن أكثر ما يدل على أن تصنيف الأحزاب الإسرائيلية إلى "يمين" و"يسار" و"وسط" هو تصنيف غير منطقي وغير صحيح، حقيقة أن حركة "ميرتس" التي تمثّل أقصى اليسار الإسرائيلي ستخوض الانتخابات المقبلة في قائمة تضم حزب "غيشر"، وهو حزب يميني تقوده أورلي ليفي، ابنة وزير الخارجية الليكودي السابق ديفيد ليفي، إلى جانب حزب "العمل".
وانعكس هذا التحالف على طابع القضايا التي تطرحها الأحزاب الثلاثة في الحملة الانتخابية، إذ لا اهتمام بالقضايا المتعلقة بالاحتلال وتسوية الصراع ومواقف حكومة اليمين. فهذه الأحزاب تركز بشكل خاص على القضايا الاجتماعية والاقتصادية والدعوة إلى التخلص من حكم نتنياهو، وهي في ذلك لا تختلف عمّا يطرحه حزب "يسرائيل بيتنا" اليميني بقيادة وزير الحرب السابق أفيغدور ليبرمان.
أما تحالف "كاحول لفان" (أزرق أبيض) الذي يقوده بني غانتس، منافس نتنياهو الرئيس، والذي يُقدَّم على أنه يمثل الوسط، فهو في منافسة مع حزب نتنياهو "الليكود" في تبني المواقف اليمينية المتشددة. فعلى سبيل المثال، لا يتردد كل من تسفي هاوزر ويوعز هندل، وهما من قيادات التحالف البارزين، في طرح المواقف المتطرفة، ويطالبان "الليكود" بضم غور الأردن وتعزيز الاستيطان وفرض المزيد من مظاهر "السيادة" داخل المسجد الأقصى.
ليس هذا فحسب، بل إن تحالف "كاحول لفان" بات ينافس "الليكود" وقوى اليمين الأخرى في تبنّي مواقف متشددة إزاء فلسطينيي الداخل، وتحديداً عبر نزع الشرعية عن القائمة العربية الموحدة والتشديد على أنها لا يمكن أن تكون ضمن أي حكومة يشكّلها التحالف، إلى جانب أن هذا التحالف تعهد بعدم تشكيل حكومة تقوم على دعم هذه القائمة من الخارج، كما عكسه كلام غانتس في مقابلته الأخيرة مع القناة الـ 12.
ومما لا شك فيه، أن هناك عدة أسباب تقف وراء ميل الأحزاب التي توصف بأنها تمثل "اليسار والوسط" في إسرائيل للتقاطع مع مواقف "اليمين الديني والعلماني". فهذه الأحزاب تعي طابع التحوّل الذي طرأ على توجّهات المجتمع الإسرائيلي، الذي بات أكثر يمينية بفعل الكثير من التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية والثقافية. وتكفي الإشارة هنا إلى أن ثلاثة قطاعات ديموغرافية كبيرة، تمثّل أكثر من 60 في المائة من اليهود في إسرائيل، تتبنّى مواقف يمينية، هي: الشرقيون، والمتدينون، والمهاجرون الجدد من روسيا والدول التي كانت تشكّل الاتحاد السوفييتي.
إلى جانب ذلك، قلّص صعود الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى سدة الحكم في البيت الأبيض من هامش المناورة أمام اليسار والوسط في إسرائيل. فتبنّي الإدارة الأميركية مواقف اليمين في إسرائيل من القدس والاستيطان وبقية مواضيع الصراع أحرج اليسار والوسط الإسرائيلي، وبات من الصعب على هذه الأحزاب أن تتبنّى مواقف تتمايز عن مواقف إدارة ترامب.
في الوقت ذاته، إن استقرار البيئة الأمنية في الضفة الغربية وتراجع المخاطر على العمق الإسرائيلي من عمليات المقاومة، بفعل تعاون أجهزة السلطة الفلسطينية الأمنية، لم يوفرا لليسار والوسط مسوغات للحديث عن أن سياسات حكومة اليمين بقيادة نتنياهو تأتي بنتائج عكسية.
ولا يمكن تجاهل تأثير موقف البيئة الإقليمية العربية في تجفيف بيئة عمل أحزاب اليسار والوسط داخل إسرائيل. فقد كان من العسير على هذه الأحزاب أن تدل على فشل سياسات الحكومة اليمينية في الوقت الذي كان فيه نتنياهو يقدّم الأدلة على أنه تمكّن من "تعزيز علاقات إسرائيل" بالكثير من الدول العربية، من دون أن يبدي أي مرونة بشأن الصراع مع الشعب الفلسطيني.