الانتخابات التونسية.. تنويعات سياسية وحضور ملحوظ لقوى بن علي
بالنظر إلى حداثة التجربة الديمقراطية في تونس، وما تشهده الساحة السياسية من حيوية عالية، ناجمة عن توسع دائرة النشاط الحزبي ومنظمات المجتمع المدني، تشكل الانتخابات، في 26 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، رهاناً مركزياً لقوى حزبية ومستقلة كثيرة، على الرغم من صعوبة احتلال موقع فعال ضمن الخارطة السياسية، بالنظر إلى شدة المنافسة، وتقارب البرامج، وغياب التجربة لدى فاعلين سياسيين كثيرين، ممن اكتشف بعضهم العمل الحزبي بعد نجاح الثورة.
ومع بدء الاستعداد لخوض الحملة الانتخابية، يمكن أن نتلمس حضور أطياف حزبية ومستقلة، معبرة عن التيارات السياسية الكبرى في البلاد، وهم الإسلاميون والقوى الدستورية ومجموعات اليسار والأحزاب الثورية والوسطية بتنويعاتهم المختلفة والأحزاب الليبرالية. غير أن هذا الحضور يتفاوت من حيث الأهمية والفاعلية، وبالتالي من حيث الحظوظ، حيث من الأكيد أن مجرد التقدم بقائمة انتخابية لا يعني الفوز، أو حتى مجرد التأثير في مسار العملية الانتخابية، بحيث يمكن، في النهاية، رصد قوى أساسية يمكن حصرها، أساساً، في حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والأحزاب الدستورية والحزب الجمهوري والجبهة الشعبية وبعض القوى والتيارات غير المنتظمة حزبيا.
واعتمادا على مبدأ التوزيع السكاني، تم تقسيم الجمهورية التونسية إلى 27 دائرة انتخابية في الداخل، وست دوائر تمثل التونسيين في الخارج. واستنادا إلى قانون انتخابي، يقوم على أساس أكبر البقايا، يمكن القول إن المجلس النيابي المقبل لن يعرف هيمنة مطلقةً لطرف حزبي محدد، وإنما سيمنح إمكانية التمثيل البرلماني لأوسع شريحة ممكنة من القوى السياسية الناشطة في البلاد. وبناء على هذه الأسس، يمكن استشراف صورة المشهد الانتخابي المقبل، بحسب خارطة القوى السياسية الكبرى، ذات التمثيلية والتأثير الواضح.
التيار الإسلامي
ويتمتع التيار الإسلامي، كما تمثله حركة النهضة، بحضور شعبي لا يمكن إنكاره، وهو يخوض المعركة الانتخابية بحرص شديد على استثمار جماهيريته، واستقطاب شخصيات مستقلة على رأس قوائمه، تضم رجال أعمال وجامعيين وشخصيات عامة، من دون اقتصار على منتسبيه الحزبيين. وعلى الرغم من مشاركة حركة النهضة في الحكم، إثر انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 (في إطار ائتلاف حاكم ضم أحزاباً أخرى)، فقد تمكنت من تجاوز التأثير السلبي لهذه التجربة على المزاج العام، حيث من المعروف أن السلطة تستنزف الأحزاب، خصوصاً إذا فشلت في تحقيق وعودها الانتخابية، غير أن انسحاب "النهضة" من الحكم، وظهورها بمظهر الزاهد فيه، من دون إنكار دور الضغوط الحزبية والاجتماعية، وحتى الخارجية التي أفضت إلى خروجها، جعلها تتمكن، في الأشهر القليلة الماضية، من إعادة ترميم ذاتها، وإقناع قطاع واسع من الشعب بأنها تعرضت لعملية تعطيل متعمد (إضرابات فئوية متتالية، وعدم تعاون الإدارة وأجهزة الدولة العميقة مع أركان حكمها) منحها صك براءة أمام ناخبين كثيرين، ممن يعتقدون أن التيار الإسلامي لم ينل فرصته كاملة في الحكم وإدارة الشأن العام. وإذا أضفنا إلى هذا براجماتية حركة النهضة ومرونتها الواسعة، وقدرتها على تقديم التنازلات في الوقت المناسب، وسعيها في خطابها المعلن إلى الوحدة الوطنية، وبناء أكبر حشد ممكن للتوافق الوطني، يمكن التأكيد أن انتخابات الأحد المقبل ستكون فرصة أخرى لتأكيد قوة حضور هذه الحركة، وامتدادها الشعبي، وقدرتها على التعبئة الحزبية والجماهيرية.
أحزاب من "التجمع الدستوري"
استطاعت القوى الدستورية، ونعني بها الأحزاب المتحدرة من التجمع الدستوري الديمقراطي، الحاكم قبل الثورة (مثل نداء تونس وحزب المبادرة والحركة الدستورية)، أن تجد لها موطئ قدم في المشهد السياسي. ولئن شكل حل "التجمع الدستوري الديمقراطي" علامة على نهاية مرحلة، إلا أنه لم يكن دليلاً على اضمحلال القوى المستفيدة سابقاً من وجود هذا الحزب في السلطة، بل إن أطرافا كثيرة من المنتمين إليه وجدوا أنفسهم يتصدرون المشهد بعد الثورة، خصوصاً أن الانتقال السياسي في تونس لم يكن عنيفاً ضد أنصار النظام السابق، وإنما حافظ على نوع من الاستمرارية داخل أجهزة الدولة التي كان يحتكرها فعلياً هذا الحزب، استمرارية كانت واضحة من خلال تولي فؤاد المبزع رئيس برلمان بن علي وعضو اللجنة المركزية للتجمع منصب رئاسة الجمهورية، وأيضا تولي شخصيات تجمّعية معروفة مناصب مهمة، على النحو الذي مثله الباجي قايد السبسي، رئيس الحكومة التي قادت المرحلة نحو انتخابات المجلس التأسيسي. وقد تمكنت قوى حزبية متحدرة من "التجمع" المنحل من إعادة التشكل، مستفيدة من فوضى الأحزاب التي عرفها المشهد السياسي بعد الثورة، ولتتمكن من المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي، وتفوز ببعض المقاعد فيه. وسرعة التشكل وإعادة هيكلة ذاتها التي سارعت إليها القوى المتولدة عن التجمع الدستوري تعود إلى عاملين أساسيين:
أولهما، أن الثورة التونسية لم تعمد إلى فعل استئصالي عنيف ضد أساطين النظام السابق، بل حرصت على أن تسير ضمن عملية انتقال ديمقراطي سلمي، يقوم على الانتخابات ومنطق التحالفات والتجاذبات السياسية، مما سمح للقوى المنتسبة للحكم السابق بأن تعيد التموقع في الخارطة السياسية.
ثانيهما: استفادت القوى الدستورية من التجاذب السياسي الحاد بين القوى الحزبية المختلفة، خصوصاً بعد انتخابات 11/23/ 2011، حيث حاولت قوى حزبية مختلفة إعادة القوى التجمعية إلى المشهد السياسي، لاعتقادها أنها المكافئ الشعبي لحركة النهضة وحلفائها في "الترويكا" الحاكمة في حينه. واليوم، في ظل الإعداد لخوض الانتخابات النيابية، ثم الرئاسية، يمكن رصد حضور لافت لهذه القوى الدستورية، على الرغم من تفرقها في قوائم متعددة، وتقديمها أكثر من مرشح رئاسي (الباجي قائد السبسي وكمال مرجان ومنذر الزنايدي وعبد الرحيم الزواري). ومع أن هذا التشظّي الذي تعانيه القوى الدستورية قد لا يساعدها على تحقيق انتصار في الانتخابات، فإن هذا لا يعني أنه لن يكون لها حضور مؤثر في المشهد السياسي المقبل، مستفيدة، في ذلك، من امتدادها داخل أجهزة الدولة، وفي وسائل الإعلام، مما يعني أنها ستكون رقماً فاعلاً، بغض النظر عن النتائج التي ستحققها على أرضية الانتخابات.
قوى اليسار
في المقابل، تعاني قوى اليسار من حالة جزر جماهيري واضح، كانت قد تجلت في ضعف حضورها في المجلس التأسيسي. وعلى الرغم من محاولات الوحدة في إطار الجبهة الشعبية، أو من خلال الاتحاد من أجل تونس، فإن اليسار التونسي (بمكوناته الماركسية والقومية) يعاني مشكلات تنظيمية وسياسية متعددة، أفضت إلى حالة من التفكك السياسي في أفق الانتخابات المقبلة، ويمكن حوصلة جملة أزمات اليسار التونسي، على النحو التالي:
ـ غلبة عامل الإيديولوجيا على مكوناتها، سواء في تقدير الموقف السياسي، أو في تحديد التحالفات، مما جعل تناقضات القوى السياسية المكونة لليسار تظهر للعلن سريعاً، مستعيدة وهج الصراعات الإيديولوجية التي كانت تستعرّ بينها في فترة السبعينيات والثمانينيات، وهو ما يكشف عن سوء تمثل للمرحلة الراهنة في تونس، ما بعد الثورة.
ـ غياب الممارسة الديمقراطية داخل الأطر الحزبية اليسارية، مما تجلى في انسحاب قيادات من هذه التحالفات، على خلفية تعيين أسماء على رأس القائمات الانتخابية، واستبعاد أخرى.
ـ ضعف هيكلة القوى الحزبية اليسارية على المستوى التنظيمي، وهي التي حاولت، في لحظةٍ ما، أن تتحول إلى تنظيم موحد، يتمتع بقيادة مركزية، تتبعها تنسيقيات جهوية (نموذج الجبهة الشعبية). غير أن الوقائع أثبتت أن هذه التحالفات ليست سوى تجمع فضفاض لقوى جمعتها الخصومة الإيديولوجية للتيار الإسلامي من جهة، ومحاولة تدارك وضعها بعد انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، والتي كشفت عن ضعفها وافتقادها للعمق الشعبي.
ـ يبدو أن الخلافات التي تعصف بالجبهة الشعبية، وانسحاب جملة من مكوناتها، بالإضافة إلى الطبيعة النخبوية لأحزاب الاتحاد من أجل تونس، قد أجهضت الطموح المعلن سابقاً، بخصوص خوض الانتخابات بقائمات موحدة، وبالتالي، تراجع حظوظها في تبوؤ موقع مؤثر في المشهد السياسي التونسي مستقبلا.
القوى الثورية
وبقي أن نشير إلى أهمية الحضور الذي تمثله القوى الثورية (وتمثلها أحزاب المؤتمر من أجل الجمهورية وحركة وفاء والتيار الديمقراطي)، أو أحزاب الوسط (تتجسد في الحزب الجمهوري والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والتحالف الديمقراطي)، أو بعض التيارات الحزبية (مثل تيار المحبة بزعامة الهاشمي الحامدي)، حيث يمكن القول إن حزب المؤتمر تظل حظوظه الانتخابية قائمة، ويستمدها من شخصية رئيسه، الدكتور المنصف المرزوقي، بالإضافة إلى تجاوزه مرحلة التشظّي التي عاناها، بعد مشاركته في الحكم وانشقاق أكثر من طرف سياسي من صفوفه، وسعيه إلى ضم وجوه سياسية كثيرة فاعلة على رأس قوائمه الانتخابية، كما يمكن أن نسجل الحضور المؤكد للحزب الجمهوري، بزعامة المرشح الرئاسي، أحمد نجيب الشابي. فبالرغم مما عاناه من أزمات هيكلية، وانشقاقات متتالية، يظل رقما انتخابياً لا يمكن إغفاله، أو التغاضي عن فاعليته.
بقي أن نشير، أخيراً، إلى ما يمكن أن يلعبه المال السياسي من دور في الانتخابات المقبلة، وهو أمر كان قد حذر منه الرئيس المنصف المرزوقي، حيث لا يخفي مرشحون من رجال الأعمال، أو المستندين إلى لوبيات مالية/سياسية، رغبتهم في لعب دور سياسي في المرحلة المقبلة. غير أن هذا التأثير سيكون محدوداً، إذا أخذنا في الاعتبار التجربة الانتخابية السابقة، حيث فشل المتنفذون مالياً في إيجاد موطئ قدم سياسي في أروقة المجلس التأسيسي، على الرغم من الإنفاق المالي المبالغ فيه.
وتظل التجربة الانتخابية التونسية، على هناتها، رائدة في ظل محيط عربي مضطرب، وانسداد أفق ثورات عربية عجزت عن تصريف أزماتها سلمياً، وتحولها إلى مسارات عنيفة، سواء كانت انقلابية أو في شكل حروب أهلية وصراعات طائفية. فالتجربة التي يخوضها الشعب التونسي تشكل لحظة تاريخية فارقة في صناعة ثقافةٍ انتخابيةٍ، بمعايير عالمية، تستند إلى الشفافية وقواعد قانونية عادلة وهيئات مشرفة ذات استقلالية، تمنح الفرصة للجميع، وعلى قدم المساواة، من أجل المساهمة في بناء المستقبل الديمقراطي لتونس، بعيداً عن منطق الإلغاء، أو روح الإقصاء والتشفي. إنها تجربة تستحق المتابعة، بوصفها درساً فعلياً، يثبت قدرة الشعوب العربية على حل المشكل السياسي، ضمن إطار من التعايش الوطني والحوار السياسي الراقي، بعيداً عن العنف والفوضى.