الانتخابات في ليبيا.. مزيد من الانقسام والصراع المفتوح
صلاح البكوش
الانتخابات عملية أساسية لضمان التمثيل والمساءلة، وتسهم على المدى الطويل في بناء السلام من خلال معالجة الأسباب الجذرية للنزاع، كما تستطيع ضمان تمثيل من جرى إقصاؤهم في السابق، ويمكن أيضاً تصميم العملية الانتخابية بطريقة تعزّز الاعتدال والتوافق المجتمعي. ولكن التجربة العالمية الموثقة لا تدع مجالا للشك في حقيقة أنه في ظل الاستعجال وسوء التصميم، يمكن للانتخابات أن تشكّل تهديدا لوضع هشٍّ أصلاً كالذي نراه في ليبيا اليوم.
تركز هذه المقالة على توقيت الانتخابات وتسلسلها، وهي إحدى السمات الرئيسية الثلاث للتصميم الانتخابي (التوقيت والتسلسل، الإدارة الانتخابية، النظم الانتخابية) التي تؤثر تأثيرا حاسما على نجاح الانتخابات أو فشلها في المجتمعات المنقسمة المعرضة للنزاع.
في هذا الوقت، يفتقر المجتمع الليبي إلى مؤسسات دولةٍ فعالة، ويعاني من انقساماتٍ عميقة، وانتشار كبير للسلاح بصورة مكثفة. وفي حالٍ كهذا، ستعمق الانتخابات، باعتبارها تنافساً على السلطة، الانقسامات الحالية، وتحمل في طياتها إمكانية إدخال البلاد في صراع مفتوح. ليس هذا القلق أو التخوف فقط وليد تجارب مماثلة حول العالم، ولكنه أيضاً مبني على التجربة الليبية نفسها مع ثلاثة انتخابات وطنية، في أقل من سنتين. ففي بيئةٍ موسومةٍ باستقطابات حادة، وأسباب جوهرية للصراع لم تُحل بعد، وأطراف صراع رئيسية بعيدة عن أي توافق، تصبح الدعوات إلى انتخاباتٍ في عام 2018 نوعا من العبث، وقد تقود إلى تعميق الانقسام، بدلاً من توحيد البلاد.
انتخابات المؤتمر الوطني العام
أدلى الليبيون في 7 يوليو/ تموز 2012، وفي جو من التفاؤل والحماس، لأول مرة منذ عقود، بأصواتهم في انتخابات "المؤتمر الوطني العام"، وهو الجسم الذي من المفترض أن يحلّ محل المجلس الوطني الانتقالي الذي قاد البلاد منذ انطلاق الثورة، ويقود المرحلة الانتقالية الثانية إلى حين إقرار دستور جديد للبلاد. أدلى 1,764,840 بأصواتهم، وهو ما يشكل نسبة 48% من إجمالي من يحق لهم التصويت الذين قدّرهم المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية بحوالي 3,622,314. وفي مؤشر على بيئة أمنية آمنة نسبياً، أعلن مركز كارتر أن مراقبين تابعين له استطاعوا زيارة مراكز انتخابية في إحدى عشرة دائرة انتخابية من أصل ثلاث عشرة. وفي ما يبدو الآن أنه انعكاس للأمل، أكثر منه استشرافا واقعيا للمستقبل، صرح رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي، ألكسندر جراف لامبسدورف، أن الانتخابات وضعت الأساسات لتنمية ديمقراطية في المستقبل.
دعا المؤتمر العام الليبيين، في 20 فبراير/ شباط 2014، إلى انتخاب ستين عضواً لهيئة صياغة الدستور على أساس عشرين عضواً عن كل من مناطق البلاد الشرقية والجنوبية والغربية، بغض النظر عن التعداد السكاني. وشكل هذا تراجعاً، أمام معارضة قوية استخدم فيها العنف، في بعض الأحيان، من دعاة الفيدرالية في شرق البلاد، عن قرارٍ سابق من المجلس الوطني الانتقالي بإسناد المهمة إلى لجنةٍ من الخبراء، يختارها المؤتمر الوطني العام. أدلى 730 ألف ناخب فقط بأصواتهم، أي حوالي 20%، كما أدى وضع أمني غير مستقر وخلافات سياسية إلى عدم انتخاب ثلاثة عشر مقعدا في الهيئة. وأعلن مركز كارتر أن فريق المراقبين التابع له لم يستطع الانتشار خارج طرابلس، وأن الانتخابات "فشلت في تحقيق الشمولية المطلوبة لخلق جسم تمثيلي حقيقي". وتحدثت بعثة خبراء الانتخابات التابعة للاتحاد الأوروبي في ليبيا، في تقريرها الختامي، عن عدم تكافؤ حصص المقاعد بقولها "بعد تسجيل الناخبين، كان للغرب 61% من عدد الذين سُجلوا و31% للشرق و8% للجنوب، وبالنظر إلى الفروق الكبيرة في عدد الناخبين المسجلين عبر البلاد، أصبح عدد الأصوات التي يتطلبها الفوز متفاوتا بدرجةٍ مهولةٍ طبقاً للمنطقة. وبذلك، هبط عدد الأصوات التي يتطلبها الفوز بمقعد من 21,752 صوتاً في طرابلس إلى 359 صوتاً في إحدى الدوائر الفرعية في سبها".
انتخابات الهيئة الدستورية
كانت سنة 2014 حافلةً بالأحداث، فبالإضافة إلى انتخابات الهيئة الدستورية، هزّت بنغازي سلسلة اغتيالات لم تكشف أي جهة رسمية عن ملابساتها حتى الآن، وأطلق خليفة حفتر "عملية الكرامة" لمحاربة "الإرهاب" حسب قوله. وفي طرابلس، حجب المؤتمر الوطني الثقة عن حكومة علي زيدان، لتطيح المحكمة العليا بديله أحمد معيتيق. وعلى الرغم من تحذيرات المندوب الخاص للأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، طارق متري، من أن انتخابات جديدة لن تكون سهلة، ولن تُقصر من عمر المرحلة الانتقالية، اُرغم المؤتمر الوطني على القيام بتعديل دستوري، سمح بإجراء انتخابات جديدة في 25 يونيو/ حزيران، والدخول في مرحلة انتقالية ثالثة. تم هذا تحت ضغط حملة ممولة جيدا، شملت هجوماً مسلحاً على المؤتمر جُرح فيه بعض أعضائه، وارتكزت على افتراضاتٍ مشكوك فيها، تشمل انتهاء ولاية المؤتمر، وحالة من الانسداد السياسي، وأن الحل هو في انتخاباتٍ جديدةٍ، لاستبدال المؤتمر بمجلس النواب الحالي. أدلى 630 ألف ناخب بأصواتهم في هذه الانتخابات، وهو ما يمثل نسبة مشاركة 17% فقط، وأجلت هيئة الانتخابات إعلان النتائج أسبوعين، بعد اتهامات بحصول أنشطة غير مشروعة في 24 محطة انتخابية. وقبل أن ينتهي العام حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية التعديل الدستوري السابع الذي أجراه المؤتمر الوطني وكل الآثار المترتبة عليه، وأهمها انتخابات مجلس النواب. وأشتعل فتيل الحرب، وأصبح لليبيا مجلسان تشريعيان وحكومتان (مجلس نواب وحكومة مؤقتة في طبرق، ومؤتمر وطني عام وحكومة إنقاذ في طرابلس).
الحكمة الغائبة والبحث عن السلام
تواجه ليبيا الآن، في بحثها عن نوع من السلام والاستقرار، سؤالين مهمين، يتعلق الأول بالحكمة من إجراء انتخابات جديدة في عام 2018، باعتبارها محاولة لم تثبت التجربة العالمية، أو الليبية، نجاحها بديلا للتوافق السياسي، ومحفّزا للقوى المتصارعة على عودتهم إلى الحياة المدنية، وتحقيق بعض الاستقرار. ويتعلق السؤال الثاني بكيفية تحقيق الشروط الضرورية التي تجعل الانتخابات تخدم السلام، في ظل توافق شبه كامل بين المختصين، أنه في غياب اتفاق سلام فعال، وغياب نزعٍ للسلاح وإصلاحٍ للمؤسسات الأمنية، بالإضافة إلى وجود مؤسساتٍ توفر الحماية الإدارية والقانونية، ستُديم أي انتخابات الخلافات القائمة، وتؤجج الصراع بين متنافسين ما زالوا مسلحين. ويجادل مانسفيلد وسنايدر بأنه يجب تتبع تسلسل بناء المؤسسات، قبل تشجيع انتخابات تنافسية كبرى، فمحاولة تحقيق الديمقراطية في تسلسلٍ مغلوط قد يؤدي إلى الاقتتال في المدى القصير، وتعزيز مكانة قوى ذات نزعةٍ غير متسامحة، ستقف في وجه أي محاولةٍ لتأسيس ديمقراطية قوية على المدى البعيد. وهو أيضاً ما أشار إليه السفير البريطاني إلى ليبيا، بيتر ميليت، عندما علق على قضية الانتخابات بقوله "الانتخابات الجديدة يجب أن تنبع من المصالحة الوطنية والوحدة...المصالحة الوطنية مهمة، وستُمكن الليبيين من قبول نتائج هذه الانتخابات." كما يبدو أن مبعوث الأمم المتحدة الجديد، غسّان سلامة، يتفق مع هذا الطرح، حيث علق على الموضوع بقوله، في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية التونسي، خميس الجهيناوي، إن الأمم المتحدة تدعم إجراء انتخاباتٍ في ليبيا، إذا توفرت شروطها، والمتعلقة أساسا بجاهزية المفوضية المعنية بالانتخابات، وتوفر قانون الانتخابات والاتفاق عليه، فضلا عن توافق مختلف القوى السياسية على فكرة إجراء الانتخابات.
يدفع دون برانكاتي وجاك سنيدر في مقالتهما بخصوص ليبيا في مجلة الشؤون الخارجية "لماذا التسرّع في الانتخابات يمكن أن يعيد إشعال حرب أهلية" إلى أن هناك ظروفا، تقلل من احتمال انتهاء الانتخابات بالعنف:
أولا، إذا ما هزم طرفٌ في الصراع الطرف الآخر تماماً، فإن فرص تجدد القتال بسبب الانتخابات تنخفض إلى النصف، لكن توازن القوى بين الأطراف في ليبيا لا يزال في حالة تغير.
ثانياً، إذا ما أتيحت للبلاد فرصة بناء مؤسسات محايدة وقائمة على احترام القانون وغير فاسدة، بما في ذلك المحاكم والشرطة، وغيرها من البيروقراطيات الحكومية، فإن احتمالات وقوع عنفٍ في مرحلة ما بعد الانتخابات تنخفض بشكل ملحوظ، إلا أن معمر القذافي ترك ليبيا محرومةً من المؤسسات الحديثة، وسمح اقتصادها القائم على النفط بتفشي الفساد. ولذا، فإن التغلب على هذه المخاطر سيستغرق بعض الوقت.
ثالثا، إذا ما كانت هناك اتفاقات بين أطراف الصراع لتقاسم السلطة، فإن فرص أن يؤدي التصويت إلى العنف ستنخفض. ومع وجود مثل هذه الاتفاقات، ليس لدى أطراف الصراع
الكثير الذي ستخسره في الانتخابات. وبالتالي، هي على الأرجح لن ترفض النتائج، وتعود إلى الحرب، كما أن اللامركزية قللت من احتمال تجدّد الحرب بأربعة أخماس. وحتى الآن، ليس لدى ليبيا مثل هذه الاتفاقات.
تداعيات الانتخابات التي أنتجت مجلس النواب ماثلة للعيان، ودليل آخر على حقيقة أن إجراء انتخابات لإنتاج سلة جديدة من المؤسسات بطاقم جديد ليست بلسما سحريا، كما يروّج له، خصوصا أنه ليست هناك إجابة شافية لكيفية تشجيع الليبيين على الانخراط من جديد في العملية السياسية، في أجواء من الإحباط وانعدام الثقة والانقسام والمعاناة الاقتصادية، ومن دون إعطاء وعودٍ لا يمكن الإيفاء بها. وإذا ما كان وجود بيئةٍ آمنة، بما فيه الكفاية، شرط لا غنى عنه لتنظيم الانتخابات وتنفيذها بنجاح، كيف سيكون ممكنا إجراء انتخابات حرة ونزيهة على سبيل المثال في شرق البلاد الذي يسيطر عليه خليفة حفتر، في ظل ما أورده تقرير فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن في يونيو/ حزيران 2017 إن قوات حفتر قامت "باحتجاز عشرات النشطاء، وأعضاء مجلس النواب، والعاملين في قطاعي العدالة والأمن في المنطقة الممتدة من طبرق إلى بن جواد، أو تخويفهم، بهدف تكميم أفواه المعارضة السياسية". وأخيراً، ربما سيكون مفيداً أن نتمعّن النظر في تعليق خبير الشؤون الليبية في المجلس الأوروبي، ماتيا توالدو، بشأن الموضوع، عندما قال "الانتخابات، شريطة أن تكون حرّة ونزيهة، وهي علامة استفهام كبيرة في ليبيا اليوم، أثبتت بالفعل أنها محرّك التصعيد في 2014. والخطر أنه بدلا من أن نستبدل الرصاص بأوراق اقتراع، قد نحصل مرة أخرى على أوراق اقتراع (معظمها فارغة) يتلوها مزيد من الرصاص".
تركز هذه المقالة على توقيت الانتخابات وتسلسلها، وهي إحدى السمات الرئيسية الثلاث للتصميم الانتخابي (التوقيت والتسلسل، الإدارة الانتخابية، النظم الانتخابية) التي تؤثر تأثيرا حاسما على نجاح الانتخابات أو فشلها في المجتمعات المنقسمة المعرضة للنزاع.
في هذا الوقت، يفتقر المجتمع الليبي إلى مؤسسات دولةٍ فعالة، ويعاني من انقساماتٍ عميقة، وانتشار كبير للسلاح بصورة مكثفة. وفي حالٍ كهذا، ستعمق الانتخابات، باعتبارها تنافساً على السلطة، الانقسامات الحالية، وتحمل في طياتها إمكانية إدخال البلاد في صراع مفتوح. ليس هذا القلق أو التخوف فقط وليد تجارب مماثلة حول العالم، ولكنه أيضاً مبني على التجربة الليبية نفسها مع ثلاثة انتخابات وطنية، في أقل من سنتين. ففي بيئةٍ موسومةٍ باستقطابات حادة، وأسباب جوهرية للصراع لم تُحل بعد، وأطراف صراع رئيسية بعيدة عن أي توافق، تصبح الدعوات إلى انتخاباتٍ في عام 2018 نوعا من العبث، وقد تقود إلى تعميق الانقسام، بدلاً من توحيد البلاد.
انتخابات المؤتمر الوطني العام
أدلى الليبيون في 7 يوليو/ تموز 2012، وفي جو من التفاؤل والحماس، لأول مرة منذ عقود، بأصواتهم في انتخابات "المؤتمر الوطني العام"، وهو الجسم الذي من المفترض أن يحلّ محل المجلس الوطني الانتقالي الذي قاد البلاد منذ انطلاق الثورة، ويقود المرحلة الانتقالية الثانية إلى حين إقرار دستور جديد للبلاد. أدلى 1,764,840 بأصواتهم، وهو ما يشكل نسبة 48% من إجمالي من يحق لهم التصويت الذين قدّرهم المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية بحوالي 3,622,314. وفي مؤشر على بيئة أمنية آمنة نسبياً، أعلن مركز كارتر أن مراقبين تابعين له استطاعوا زيارة مراكز انتخابية في إحدى عشرة دائرة انتخابية من أصل ثلاث عشرة. وفي ما يبدو الآن أنه انعكاس للأمل، أكثر منه استشرافا واقعيا للمستقبل، صرح رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي، ألكسندر جراف لامبسدورف، أن الانتخابات وضعت الأساسات لتنمية ديمقراطية في المستقبل.
دعا المؤتمر العام الليبيين، في 20 فبراير/ شباط 2014، إلى انتخاب ستين عضواً لهيئة صياغة الدستور على أساس عشرين عضواً عن كل من مناطق البلاد الشرقية والجنوبية والغربية، بغض النظر عن التعداد السكاني. وشكل هذا تراجعاً، أمام معارضة قوية استخدم فيها العنف، في بعض الأحيان، من دعاة الفيدرالية في شرق البلاد، عن قرارٍ سابق من المجلس الوطني الانتقالي بإسناد المهمة إلى لجنةٍ من الخبراء، يختارها المؤتمر الوطني العام. أدلى 730 ألف ناخب فقط بأصواتهم، أي حوالي 20%، كما أدى وضع أمني غير مستقر وخلافات سياسية إلى عدم انتخاب ثلاثة عشر مقعدا في الهيئة. وأعلن مركز كارتر أن فريق المراقبين التابع له لم يستطع الانتشار خارج طرابلس، وأن الانتخابات "فشلت في تحقيق الشمولية المطلوبة لخلق جسم تمثيلي حقيقي". وتحدثت بعثة خبراء الانتخابات التابعة للاتحاد الأوروبي في ليبيا، في تقريرها الختامي، عن عدم تكافؤ حصص المقاعد بقولها "بعد تسجيل الناخبين، كان للغرب 61% من عدد الذين سُجلوا و31% للشرق و8% للجنوب، وبالنظر إلى الفروق الكبيرة في عدد الناخبين المسجلين عبر البلاد، أصبح عدد الأصوات التي يتطلبها الفوز متفاوتا بدرجةٍ مهولةٍ طبقاً للمنطقة. وبذلك، هبط عدد الأصوات التي يتطلبها الفوز بمقعد من 21,752 صوتاً في طرابلس إلى 359 صوتاً في إحدى الدوائر الفرعية في سبها".
انتخابات الهيئة الدستورية
كانت سنة 2014 حافلةً بالأحداث، فبالإضافة إلى انتخابات الهيئة الدستورية، هزّت بنغازي سلسلة اغتيالات لم تكشف أي جهة رسمية عن ملابساتها حتى الآن، وأطلق خليفة حفتر "عملية الكرامة" لمحاربة "الإرهاب" حسب قوله. وفي طرابلس، حجب المؤتمر الوطني الثقة عن حكومة علي زيدان، لتطيح المحكمة العليا بديله أحمد معيتيق. وعلى الرغم من تحذيرات المندوب الخاص للأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، طارق متري، من أن انتخابات جديدة لن تكون سهلة، ولن تُقصر من عمر المرحلة الانتقالية، اُرغم المؤتمر الوطني على القيام بتعديل دستوري، سمح بإجراء انتخابات جديدة في 25 يونيو/ حزيران، والدخول في مرحلة انتقالية ثالثة. تم هذا تحت ضغط حملة ممولة جيدا، شملت هجوماً مسلحاً على المؤتمر جُرح فيه بعض أعضائه، وارتكزت على افتراضاتٍ مشكوك فيها، تشمل انتهاء ولاية المؤتمر، وحالة من الانسداد السياسي، وأن الحل هو في انتخاباتٍ جديدةٍ، لاستبدال المؤتمر بمجلس النواب الحالي. أدلى 630 ألف ناخب بأصواتهم في هذه الانتخابات، وهو ما يمثل نسبة مشاركة 17% فقط، وأجلت هيئة الانتخابات إعلان النتائج أسبوعين، بعد اتهامات بحصول أنشطة غير مشروعة في 24 محطة انتخابية. وقبل أن ينتهي العام حكمت المحكمة العليا بعدم دستورية التعديل الدستوري السابع الذي أجراه المؤتمر الوطني وكل الآثار المترتبة عليه، وأهمها انتخابات مجلس النواب. وأشتعل فتيل الحرب، وأصبح لليبيا مجلسان تشريعيان وحكومتان (مجلس نواب وحكومة مؤقتة في طبرق، ومؤتمر وطني عام وحكومة إنقاذ في طرابلس).
الحكمة الغائبة والبحث عن السلام
تواجه ليبيا الآن، في بحثها عن نوع من السلام والاستقرار، سؤالين مهمين، يتعلق الأول بالحكمة من إجراء انتخابات جديدة في عام 2018، باعتبارها محاولة لم تثبت التجربة العالمية، أو الليبية، نجاحها بديلا للتوافق السياسي، ومحفّزا للقوى المتصارعة على عودتهم إلى الحياة المدنية، وتحقيق بعض الاستقرار. ويتعلق السؤال الثاني بكيفية تحقيق الشروط الضرورية التي تجعل الانتخابات تخدم السلام، في ظل توافق شبه كامل بين المختصين، أنه في غياب اتفاق سلام فعال، وغياب نزعٍ للسلاح وإصلاحٍ للمؤسسات الأمنية، بالإضافة إلى وجود مؤسساتٍ توفر الحماية الإدارية والقانونية، ستُديم أي انتخابات الخلافات القائمة، وتؤجج الصراع بين متنافسين ما زالوا مسلحين. ويجادل مانسفيلد وسنايدر بأنه يجب تتبع تسلسل بناء المؤسسات، قبل تشجيع انتخابات تنافسية كبرى، فمحاولة تحقيق الديمقراطية في تسلسلٍ مغلوط قد يؤدي إلى الاقتتال في المدى القصير، وتعزيز مكانة قوى ذات نزعةٍ غير متسامحة، ستقف في وجه أي محاولةٍ لتأسيس ديمقراطية قوية على المدى البعيد. وهو أيضاً ما أشار إليه السفير البريطاني إلى ليبيا، بيتر ميليت، عندما علق على قضية الانتخابات بقوله "الانتخابات الجديدة يجب أن تنبع من المصالحة الوطنية والوحدة...المصالحة الوطنية مهمة، وستُمكن الليبيين من قبول نتائج هذه الانتخابات." كما يبدو أن مبعوث الأمم المتحدة الجديد، غسّان سلامة، يتفق مع هذا الطرح، حيث علق على الموضوع بقوله، في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الخارجية التونسي، خميس الجهيناوي، إن الأمم المتحدة تدعم إجراء انتخاباتٍ في ليبيا، إذا توفرت شروطها، والمتعلقة أساسا بجاهزية المفوضية المعنية بالانتخابات، وتوفر قانون الانتخابات والاتفاق عليه، فضلا عن توافق مختلف القوى السياسية على فكرة إجراء الانتخابات.
يدفع دون برانكاتي وجاك سنيدر في مقالتهما بخصوص ليبيا في مجلة الشؤون الخارجية "لماذا التسرّع في الانتخابات يمكن أن يعيد إشعال حرب أهلية" إلى أن هناك ظروفا، تقلل من احتمال انتهاء الانتخابات بالعنف:
أولا، إذا ما هزم طرفٌ في الصراع الطرف الآخر تماماً، فإن فرص تجدد القتال بسبب الانتخابات تنخفض إلى النصف، لكن توازن القوى بين الأطراف في ليبيا لا يزال في حالة تغير.
ثانياً، إذا ما أتيحت للبلاد فرصة بناء مؤسسات محايدة وقائمة على احترام القانون وغير فاسدة، بما في ذلك المحاكم والشرطة، وغيرها من البيروقراطيات الحكومية، فإن احتمالات وقوع عنفٍ في مرحلة ما بعد الانتخابات تنخفض بشكل ملحوظ، إلا أن معمر القذافي ترك ليبيا محرومةً من المؤسسات الحديثة، وسمح اقتصادها القائم على النفط بتفشي الفساد. ولذا، فإن التغلب على هذه المخاطر سيستغرق بعض الوقت.
ثالثا، إذا ما كانت هناك اتفاقات بين أطراف الصراع لتقاسم السلطة، فإن فرص أن يؤدي التصويت إلى العنف ستنخفض. ومع وجود مثل هذه الاتفاقات، ليس لدى أطراف الصراع
تداعيات الانتخابات التي أنتجت مجلس النواب ماثلة للعيان، ودليل آخر على حقيقة أن إجراء انتخابات لإنتاج سلة جديدة من المؤسسات بطاقم جديد ليست بلسما سحريا، كما يروّج له، خصوصا أنه ليست هناك إجابة شافية لكيفية تشجيع الليبيين على الانخراط من جديد في العملية السياسية، في أجواء من الإحباط وانعدام الثقة والانقسام والمعاناة الاقتصادية، ومن دون إعطاء وعودٍ لا يمكن الإيفاء بها. وإذا ما كان وجود بيئةٍ آمنة، بما فيه الكفاية، شرط لا غنى عنه لتنظيم الانتخابات وتنفيذها بنجاح، كيف سيكون ممكنا إجراء انتخابات حرة ونزيهة على سبيل المثال في شرق البلاد الذي يسيطر عليه خليفة حفتر، في ظل ما أورده تقرير فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن في يونيو/ حزيران 2017 إن قوات حفتر قامت "باحتجاز عشرات النشطاء، وأعضاء مجلس النواب، والعاملين في قطاعي العدالة والأمن في المنطقة الممتدة من طبرق إلى بن جواد، أو تخويفهم، بهدف تكميم أفواه المعارضة السياسية". وأخيراً، ربما سيكون مفيداً أن نتمعّن النظر في تعليق خبير الشؤون الليبية في المجلس الأوروبي، ماتيا توالدو، بشأن الموضوع، عندما قال "الانتخابات، شريطة أن تكون حرّة ونزيهة، وهي علامة استفهام كبيرة في ليبيا اليوم، أثبتت بالفعل أنها محرّك التصعيد في 2014. والخطر أنه بدلا من أن نستبدل الرصاص بأوراق اقتراع، قد نحصل مرة أخرى على أوراق اقتراع (معظمها فارغة) يتلوها مزيد من الرصاص".