حلقات التنسيق السياسي التي تحيط بالوطن العربي، وخصوصا في منطقة المشرق العربي، قد تؤدي إلى تحول التبادلات الداخلية العربية إلى تبادلات مع القوى المحيطة بها. وقد قدمت لنا سياقات الحصار الاقتصادي على دولة قطر مثالاً ناصعاً على ذلك، فالتبادل التجاري الذي كان بين قطر وكل من المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين قد تحول إلى دولتين في الجوار، هما الجمهورية الإيرانية الإسلامية والجمهورية التركية.
وأدى كذلك إلى دفع قطر إلى زيادة اعتمادها على ذاتها في ترخيص إنشاء مصانع غذائية ودوائية، تجعلها في منأىً عن التعرّض لنقص هذه المواد في أي وقت في المستقبل.
ولا ينحصر هذا الأمر في التجارة والتبادل السلعي، بل يمتد إلى الخدمات في مجالات عدة. فالخطوط القطرية الجوية التي كانت تتخذ من مطارات دول الخليج الأخرى محطة انطلاقِ لها قد انتقلت إلى دول أخرى. واضطرت هذه الخطوط في طيرانها إلى التحول من أجواء الخليج إلى أجواء إيران خاصة، وبعض الدول ألإفريقية.
وبالنسبة للخدمات اللوجستية، فقد تحول استلام البضائع من جبل علي في إمارة دبي إلى موانئ خليجية أخرى، أو إلى دول قريبة، وينطبق الأمر نفسه على السياحة الطبية، والسياحة الترفيهية، والتسويقية وغيرها.
ومما سوف يعزّز من هذا الاتجاه التطورات الجديدة التي تجري على ساحة المملكة العربية السعودية، فبعد قرار السماح للنساء بقيادة السيارات في شوارع المملكة، كان قرار فتح الباب أمام العروض الفنية والغنائية القادمة من الخارج، مع ما تقدمه هذه من استعراضات مختلطة.
وأخيراً جاء السماح بإنشاء دور عرض سينمائية، والتي ستنتشر في "المولات"، ومراكز التسوق في كل مدن السعودية. وبالسماح بإنشاء أماكن ومرافق سياحية ترفيهية كمدن الملاهي، والتزلج، والعوم، حيث تملي ضرورات التسويق المجدي لهذه المرافق فتح الباب للزبائن من كلا الجنسين لدخولها والاختلاط فيها. هذه التطورات كلها سوف تحول دون سفر السعوديين للسياحة للغرض نفسه في كل من البحرين والإمارات على وجه التحديد.
وأما في ما يتعلق بالتعاون الاستثماري، فسوف نرى مزيداً من تحول الاستثمارات الخليجية بعيداً عن الدول الخليجية الأخرى، فالتعاون في مجال الغاز بين دولة قطر وإيران واضح، ولا حاجة لإعادة الخوض فيه، خصوصا أنهما تشتركان في أكبر حقل للغاز في العالم في بحر الخليج.
وكذلك، قامت سلطنة عُمان بالتوقيع على اتفاق مع إيران، لبناء أنبوب غاز بطول 400 كيلومتر لتزويد السلطنة بحاجتها من هذه المادة الحيوية الاستراتيجية، وسوف نرى أن الصناديق السيادية الاستثمارية سوف تزداد غربةً عن الدول العربية في خياراتها الاستثمارية إلى تركيا، وإيران، وغيرها من دول المنطقة من غير العرب.
وفي مجال العمالة، نرى أن الدول العربية سوف تنأى بنفسها عن طلب العمالة العربية، وستزيد قيودها على هذا الاستيراد، وتلجأ أكثر وأكثر إلى الدول الآسيوية، علماً أن مخاطر التفوق الديمغرافي لبعض هذه الجنسيات في بعض دول الخليج وصل إلى حد الخطر والتهديد لأمن تلك الدول.
وقد ثبت بعد زيادة الضغوط الدولية لتحسين ظروف العمالة الآسيوية داخل بعض دول الخليج أن هذه الدول صارت أكثر إغراءً لتلك العمالة الآسيوية. وبسبب انفتاح الاستثمار الداخلي على المقيمين من غير المواطنين في العقار، والأسهم، والشركات، فإن معظم الاستثمارات داخل دول الخليج سوف تتحول إلى القادمين الآخرين من آسيا.
ما هو حجم فاتورة التحولات الاقتصادية السلعية والخدمية والاستثمارية التي حصلت خلال الأشهر السبعة الماضية، منذ إعلان المقاطعة الاقتصادية ضد قطر، أمر يصعب تقديره. ولكن هذا المبلغ لن يقل بأي حال عن 30-40 بليون دولار، ولن تقل الكلفة الإضافية نتيجة هذه التحولات عن 10-15 بليون دولار.
ونحن نختار هنا أرقاماً متواضعة تمثل الحد الأدنى المعقول، لكن المعضلة أن هذه الأرقام مرشحة بالتدريج للزيادة، وخلق واقع جديد إن طال عليه الأمد سيصعب كسره أو عكسه بالاتجاه الآخر، فالتخلص من العرب أسهل بكثير من التخلص من الأجانب.
أثبتت الأيام من تجارب كثيرة يصعب إحصاؤها أن كسر الاتفاقيات العربية لا يترتب عليه تبعات تذكر على الدول الناقضة لتلك الاتفاقات أو الترتيبات، وكأن العرب قد أدمنوا حالة الخلل، حتى صارت جزءاً من تحليل المخاطر التي يواجهونها.
لقد قامت المملكة العربية السعودية بترحيل أكثر من مليون يمني قبل حوالي عقدين، عندما استشعرت أنهم كثيرون، وأن اعتماد السوق عليهم قد يهدّد الأمن السعودي. وبعد حرب الخليج الأولى التي دارت لإخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991 خرج على الأقل 350000 مقيم أردني وفلسطيني من الكويت، على الرغم من أن كثيرين منهم كانوا جيلاً ثانياً أو ثالثاً هنالك، ولم يعرفوا لهم وطناً آخر سوى الكويت.
وكما عانى مستثمرون عرب من إجراءاتٍ عربيةٍ، بعدما سعى هؤلاء إلى جذب الاستثمارات إلى دولهم. وقد قدمت تقارير كثيرة من مؤسسات عربية مشتركة، مثل مؤسسة حماية الاستثمار العربية والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي وجامعة الدول العربية (الإيكوسوك) تناولت مشكلات الاستثمار العربي داخل الدول العربية، ومخالفة بنود التعاقد أو حتى الاستيلاء على تلك الاستثمارات بدون وجه حق يذكر.
إذا استمر حال العرب على حاله، واستمر هذا التنابذ، واستسهال التعامل مع الآخر، فما الذي نرجوه من لُحمة وتنسيق على المستوى السياسي والأمني في وجه مخاطر الاستيلاء على القدس؟ وما هو الأمل الذي سيتبقى للمواطن العربي، والذي يرجوه من أولياء أموره؟ وكيف سيثق المواطن المغلوب على أمره بأن المسؤولين عنه، ورعاة أموره، سوف يقدرون على كل أزماته وتهيئة فرص الحياة الكريمة له في مستقبل الأيام.
الدول الإسلامية الأخرى أحسن عملاً وأفضل إدارة وأكثر قوة منا نحن العرب. تركيا، وإيران وإندونيسيا، وماليزيا، أحسن منا حالاً، وأكثر بناء للثروة الحقيقية، وأكثر منا تنويعاً لاقتصاداتها، وتفوقنا في التقدم العلمي. ولنا فيها أسوة حسنة. وبعضها مرّت مثلنا بمراحل فساد وهلهلة وفرقة، لكنها حزمت أمرها، ومنّ الله عليها بقياداتٍ صادقة، ما جعلها كلها قادرة على النهوض بشعوبها إلى مستويات أعلى، وإلى وضعٍ أكثر استقراراً وثباتا.