مع إعلان إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الانسحاب من اتفاقية "السماوات المفتوحة" بذريعة استخدام روسيا المعلومات التي تجمعها في إطاره للتصويب على الأهداف في الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي، تتبلور ملامح ارتفاع سقف الرهانات في سباق التسلح بين موسكو وواشنطن، وسط سعي القوتين النوويتين العظميين لتملّك أسلحة قادرة على إصابة أي هدف في أي مكان على وجه الأرض. ومن المؤشرات المعززة لفرضية احتدام سباق التسلح بين البيت الأبيض والكرملين، أن اتفاقية "السماوات المفتوحة" هي ثاني اتفاقية في المجال العسكري تنسحب منها واشنطن تحت قيادة ترامب، بعد معاهدة الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى التي خرجت منها الولايات المتحدة في العام الماضي، بينما لا يزال الغموض يخيم على مصير معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الإستراتيجية (ستارت - 3) التي سينتهي مفعولها في فبراير/شباط 2021.
وأثار الإعلان الأميركي الانسحاب من "السماوات المفتوحة" استياء موسكو التي عبّرت على لسان نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، دميتري مدفيديف، عن اعتقادها بأن قرار البيت الأبيض يشكّل خطوة جديدة على طريق "هدم بنية الأمن الدولي"، بينما أرجعت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، القرار الأميركي إلى تقديم الولايات المتحدة نفسها على أنها "بلد له صلاحيات خاصة وغير مكبّل بأي التزامات".
في هذا الإطار، اعتبر الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية، قسطنطين بلوخين، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الانسحاب الأميركي من اتفاقية "السماوات المفتوحة" يندرج ضمن التوجّه العام الذي يتّبعه ترامب نحو الخروج من المنظمات والاتفاقيات التي تكبّل يديه، مثل اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني ومعاهدة الصواريخ والمتوسطة والقصيرة وغيرها. وأضاف: "من الواضح أن هذه الخطوة تشكل ضربة للاستقرار الإستراتيجي وتثير رفضاً حتى داخل النخب الأميركية، ويعتبرها بعض معارضي ترامب بمثابة هدية للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي قد يرد بمنع تحليق طيران الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الأطلسي فوق روسيا".
وحول تأثير الخط الذي يتّبعه ترامب على مصير معاهدة "ستارت - 3"، لفت بلوخين إلى أن "هناك معلومات تفيد بأنه قد يتم تمديد المعاهدة لفترة نصف عام أو عام على سبيل المهلة لإعداد اتفاقية جديدة، ولكن الولايات المتحدة ترفض إبرامها ما لم تنضم إليها الصين، وهو أمر ترفضه بكين بحجتين، أنها لا تشارك في الاتفاقيات متعددة الأطراف وأن ترسانتها النووية أقل بكثير مما لدى موسكو وواشنطن". ورأى أن "الولايات المتحدة قد تستثمر العامل الصيني لعدم تمديد المعاهدة، خصوصاً أنها تتعارض مع الزيادة القياسية للميزانية العسكرية الأميركية البالغة 750 مليار دولار هذا العام".
وفي ما يتعلق بالردود الروسية المحتملة على الانسحابات الأميركية من المعاهدات العسكرية، اعتبر بلوخين أن "الولايات المتحدة تسعى لجرّ روسيا إلى سباق التسلح، وهو جارٍ بالفعل، ولكن موسكو لا يمكنها استثمار المبالغ نفسها في ذلك السباق نظراً لاختلاف الحجم الاقتصادي للبلدين. لذلك، تعمل موسكو على تطوير سلاح نوعي عابر للقارات قادر على اختراق الدرع الصاروخية الأميركية، وهو ما أعلن عنه بوتين في رسالته إلى البرلمان قبل عامين لإصدار رسالة إلى واشنطن بأنها لن تتحقق الهيمنة المطلقة والأمان الكامل مهما ارتفع حجم إنفاقها العسكري، موجهاً بذلك دعوة إلى التفاوض". وأضاف أن الهدف من الاتفاقية هو السماح بالمراقبة وتعزيز الثقة وإظهار الأطراف أنها لا تعد البنية التحتية لشن أي هجوم.
ومع ذلك، أوضح بلوخين أن وقف العمل بالاتفاقيات لا يعني تصعيداً بين موسكو وواشنطن تلقائياً، مضيفاً أن "ترامب كونه رجل أعمال، يسعى لرفع قيمة الرهان عن طريق زرع الشعور بالاقتراب من حافة الصدام مثلما تعامل مع فنزويلا وإيران وكوريا الشمالية، بهدف عقد المفاوضات وفقاً لشروطه". وذكّر بأن الانسحاب الأميركي من معاهدة الصواريخ المتوسطة والقصيرة لم يؤدِ حتى الآن إلى نشر صواريخ أميركية بالقرب من الحدود الروسية في أوروبا أو آسيا، خالصاً إلى القول إن "هذا هو أسلوب ترامب".
يُذكَر أنه بدأ العمل على إعداد اتفاقية "السماوات المفتوحة" في نهاية ثمانينيات القرن الماضي في إطار الجهود الرامية إلى خفض التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في عهد الرئيس الأميركي الراحل جورج بوش الأب (1988 ـ 1992). وعلى الرغم من التوقيع عليها في العاصمة الفنلندية هلسنكي في عام 1992، إلا أنها لم تدخل حيز التنفيذ سوى في عام 2002. وبحلول اليوم يبلغ عدد المشاركين في الاتفاقية 35 بلداً.
وخلال فترة سريان الاتفاقية، تم تنفيذ أكثر من 1500 طلعة استطلاعية بموجب الحصص السنوية لكل دولة بواسطة طائرات من أنواع متفق عليها مسبقاً، وبحضور ممثلين عن الدولة الخاضعة للمراقبة على متنها. وفي حال قرر أي من أطراف الاتفاقية الخروج منها، يتعين عليه إبلاغ الدول الأخرى قبل ذلك بنصف عام، على أن يلي ذلك عقد مؤتمر للدول الأعضاء لمناقشة تداعيات الانسحاب.