20 سبتمبر 2018
الانطفاء واﻻحتراق السياسي في المغرب
استعملت مفهوم "اﻻحتراق السياسي" ﻷعبر به عن حالة نفسية استعرتها من مجال علم النفس المهني يعبر عنها بمفهوم "اﻻحتراق النفسي" (Burned out)، وهو حالة نفسية تستجيب لاستنزاف عاطفي مزمن يتمثل في مستوى عال من الإجهاد النفسي الانفعالي نتيجة التعرض للضغوط المجهدة والخبرات القاسية والمؤلمة جدا، فيؤدي إلى تدني الإنتاجية والشعور بالإحباط، ثم ردود فعل سلبية تجاه اﻵخرين وتجاه مصدر الإحباط.
مرحلة هذا اﻻحتراق النفسي تسبقها مراحل وسيطية وهي مرحلة الإجهاد ومرحلة الإنهاك النفسي الطويل التي تؤدي إلى مرحلة ما قبل اﻻحتراق النفسي وهي مرحلة اﻻنطفاء النفسي (Extinction). هي مفاهيم يمكن استعمال خطاطاتها في الحروب السياسية والاقتصادية كما كانت تستعمل في أول الأمر في الحروب العسكرية.
نقصد بـ"اﻻنطفاء النفسي" في العمل السياسي شعور المناضل بانطفاء قدرته في النضال الديمقراطي وانطفاء علاقته بزملائه ومحيطه السياسي نتيجة خيبة وراء خيبة خلفت لديه شعورا بأن ﻻ فائدة ترجى مرة أخرى من العمل السياسي ومن علاقته برصيده وزملائه في النضال، وتنتهي هذه المرحلة بـ"اﻻحتراق النفسي" الذي يجعل حدا نهائيا لإنتاجيته وتأثيره اﻹيجابي في المحيط والرغبة في تغييره؛ فيقع بسبب هذه الحالة في مجموعة من السلوكات تتسم بدرجة من العدوانية، حسب درجة احتراقه، إما تجاه نفسه باﻻنطواء والندم على ما فات وممارسة التعذيب على ذاته وعلى اﻵخرين، أو بالانقلاب رأسا على عقب على مبادئ حزبه أو قيم مجتمعه التي نشأ عليها منتقما من جماعته ومن مجتمعه أو من أسرته، وقد يصل به اﻻنحراف إلى ممارسة أنواع من سلوكات انحرافية تخديرية مادية كالتدخين والإمان على الخمر والمخدرات أو سلوكات تخديرية معنوية كتبنّي اﻷفكار اﻻنسحابية أوالخيال الصوفي المخدر أو اﻻنخراط في التيارات المنكرة للعمل السياسي وإلى غير ذلك حسب قابلية الشخص التربوية لهذا النوع أو ذاك من المخدرات.
ما هي علاقة هذه المفاهيم من مجال علم النفس بالحراك الشعبي الذي اصطلح عليه بـ"المقاطعة"؟
أوﻻ، لأنها هي اﻷدوات التي تسعفنا لفهم ظاهرة احتراق اﻷحزاب وقادتها واحتراق الشعب معها؛ وتسعفنا ثانيا، لفهم سر استمرار ظاهرة الحراك الشعبي في صورته الحالية وهي المقاطعة لعدد من الشركات الكبرى عبر وسائل التواصل اﻻجتماعي؛ وثالثا فهم، لماذا ﻻ يتفاعل المقاطعون مع ترجيحات الوزراء وقادة حزب العدالة والتنمية رغم المصداقية التي يتمتعون بها لدى عموم الشعب المغربي أكثر من غيرهم من اﻷحزاب التاريخية التي احترقت بالكامل؟
استقبل عموم رواد التواصل اﻻجتماعي وعموم المواطنين تصريحات الوزراء والقادة السياسيين المدافعين عن الشركة الفرنسية سنترال دانون بامتعاض شديد، ويظهر أن هذه التصريحات كسابقتها ستمر بسرعة دون استجابة عموم المقاطعين لترجيهم إنهاء مقاطعة حليب هذه الشركة دون غيرها من المواد التي استهدفتها المقاطعة.
هناك جوانب موضوعية تفسر استمرار المقاطعة، وجوانب نفسية عميقة ﻻ تسمح بتقدير الوساطات وإن كانت وساطة ملك البلاد إﻻ إذا استجاب لتغييرات عميقة في نهج الدولة السياسي واﻻقتصادي. قد تكون هذه المقاطعة بدءا بفعل فاعل؛ لكنها أصبحت شعبية وتحولت إلى ثقافة عامة، والأهم أنها خرجت عن سيطرة بادئها ولم تستطع الأموال ولا الإعلام توقيفها.
حاولت استقصاء الأسباب الملموسة لتجاهل المقاطعين تصريحات ترجّي إنهاء المقاطعة؛ فوجدت أن من اﻷسباب المهمة التي زادها وهجا وتوقدا، خروج الحكومة بأول بلاغ لها بعد شهر من المقاطعة وبلغة تهديدية، وخروج بعض قادة اﻷحزاب المشاركة في الحكومة بتصريحات مستفزة، أو بتصريحات متناقضة، أو الركيكة كأنها تحت الطلب واﻻستجداء؛ تصريحات ومواقف حكومية تُوّجت بمشاركة وزير حزب "العدالة والتنمية" الحسن الداودي في وقفة احتجاجية على المقاطعة لعمال شركة سنترال دانون أمام البرلمان استنكرها عموم الشعب المغربي استنكارا شديدا أدى به الأمر إلى تقديمه للملك طلب إعفائه من مسؤوليته الحكومية.
يضاف إلى ما سبق حالة ا‘حباط النفسية التي وصل إليها الشعب المغربي بعد سلسلة تاريخية من قمع السلطة اﻹدارية للحريات السياسية وحقوق الإنسان انتهت بالمد والجزر بين اﻻستبداد واﻻنتقال الديمقراطي البطيء، لتستقر الحالة السياسية، بعد نتائج الانتخابات التشريعية 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2016 التي فاز فيها حزب "العدالة والتنمية" فوزا مبهرا بسبب الثقة الشعبية الجارفة في زعيمه عبد اﻹله بنكيران، لتستقر عند ضرب اﻹرادة الشعبية في مقتلها بما اصطلح عليه "بلوكاج تشكيل الحكومة" يقوده الرجل الملياردير أخنوش النافذ في الدولة والمهيمن على عدد من القطاعات اﻻقتصادية والمستهدف الرئيسي بالمقاطعة؛ أي عرقلة تشكيل بنكيران للحكومة بطريقة ممنهجة ومخطط لها وبأساليب التعذيب النفسي، لمدة تزيد عن خمسة أشهر، لتنتهي بإعفائه خارج القواعد الديمقراطية التي تقتضي اﻻستماع إليه في المؤسسات الدستورية لشرح أسباب "البلوكاج" ولاقتراحاته.
واكتُفي بالتدخل المباشر للملك لإنهاء اﻷزمة السياسية وتعيين شخص آخر من نفس الحزب وهو الدكتور سعد الدين العثماني الذي شكل الحكومة على نفس المقاس الذي رفضه سابقه؛ لتتفاعل اﻷحداث داخل هذا الحزب المزعج لجهات كثيرة في الدولة، والذي خسر على أثرها رصيدا مهما من شعبيته، ثم لتتفاعل اﻷحداث والقلاقل داخل المملكة وتتناسل البؤر الاحتجاجية في جهات عديدة، من أشهرها حراك الحسيمة وحراك جرادة وحراك زاكورة توجت بحراك المقاطعة واسع النطاق أدخل الدولة في أزمة سياسية محرجة، وأحرق جميع أوراق أحد أعمدتها أخنوش وحزبه اﻹداري التجمع الوطني للأحرار ومشروعه الذي سماه "مسار الثقة" والذي بشر من خلاله جوﻻته المكوكية في الجهات واﻷقاليم بصعوده في انتخابات 2021، واحترق معه حزب "العدالة والتنمية" بعد الخرجات اﻷخيرة غير المحسوبة لقياداته ووزرائه.
كاد حزب "العدالة والتنمية" بصمته لمدة تزيد عن شهر من المقاطعة أن يكون هو الوحيد المستفيد من هذا الحراك وأن يستعيد جزءا من عافيته؛ لكن الذي يبدو هو أن جهات عليا أدركت هذا اﻻتجاه لنتائج المقاطعة فأمرت الحكومة بالتدخل وصاغت بيانها التهديدي الأول ونسقت مع وزراء هذا الحزب ﻹيقاف مقاطعة شركة سنترال؛ مما ورطهم في الصراع مع المقاطعين من جهة؛ ومن جهة أخرى في اتجاه التغطية على اختلالات وضعية قطاع المحروقات وتسويتها بطريقة تجنب محاسبة أخنوش وشركات المحروقات التي كشف تقرير لجنة الاستطلاعية البرلمانية عن تلاعبها في شراء وبيع هذه المادة الحيوية في اﻻقتصاد الوطني.
بناء على معطيات التحليل النفسي ومفاهيمه سالفة الذكر، لن تنفع مع المقاطعة صراخات وترجّيات قيادات اﻷحزاب والنقابات، وﻻ وساطات زعاماتها؛ لأن الأحزاب كلها أتاها اﻻحتراق السياسي وانتهت، باستثناء حزب العدالة والتنمية لم يحترق كاملا لكنه دخل مرحلة الانطفاء، وجل الزعامات بدأت تنطفئ انطفاء نفسيا في انتظار اﻻحتراق، كما أرادت لهم الدولة العميقة؛ وحتى الشخصيات الوازنة التي اكتسبت ثقة قطاع عريض من الشعب مثل بنكيران الذي اكتسب شهرة غير مسبوقة وطنيا ودوليا، من المستبعد جدا أن تقبل وساطتهم؛ ﻷن صفة زعامتهم وتقدير الناس لهم لم يكن تقديسا ﻷشخاصهم، وﻻ لشخصنة المبادئ في ذواتهم، وﻻ اتّباعا لهم تبعية المريدين الصوفيين لشيوخهم بأي حال وبأي ثمن، وﻻ توقيعا لشيك الثقة فيهم على بياض.
أمام هذه الموجة الثانية من الربيع المغربي المختلفة ظروفها تماما عن ظروف الربيع الأول سنة 2011، يبدو أن أول الخاسرين من اﻻحتراق السياسي للأحزاب وقادتها المتميزين هو النظام الحاكم، وهو المسؤول منذ الاستقلال عن ترتيب اﻻحتراق للأحزاب، واحدا تلو اﻵخر ليحكم وحده ويسود.
إن الذين سببوا في إعفاء زعيم حزب "العدالة التنمية" بنكيران وأقعدوه في غرفة اﻻنطفاء النفسي لعله يحترق سياسيا ويحترق حزبه قد يحتاجون إليه يوما ويطلبونه وسيطا لمواجهة غضب الحراك الشعبي بالحوار والمصداقية؛ ستكون المفاجأة أن يجدوا الشعب وحتى أعضاء حزبه قد ولوه ظهورهم بسبب اﻻنطفاء، وأن ﻻ يجدوا من هو أهدى منهم يحول بينهم وبين غضب الشعب يوم يكون عارما.