البطريرك الاستقلالي والبذاءة المَبْغوتة

30 مايو 2019

البطريرك صفير في حفل زواج جماعي في كاتدرائية (16/10/2009/Getty)

+ الخط -
تشييع الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير كان حدثاً وطنياً، لقسم وافر من اللبنانيين. الجموع احتشدت للمشاركة به، وكانت عفوية. ولكنّ أيضاً أحزابا وشخصيات لم تقصّر في إطلاق النفير. وبما أن البطريرك حملَ، منذ عقدين، صليبَي الاستقلال عن النظام السوري، والمصالحة في الجبل بين موارنته ودروزه، كان من الطبيعي أن يجدِّد هذا التشييع الانقسام العميق بين اللبنانيين: بين مؤيد بالأساس لحزب الله، حامي حمى النظام السوري، ومن يناهضه، أي ممانعة و"أنتي" ممانعة. الأقلام والأصوات المندِّدة بكل هذه العواطف الجياشة لم تقصِّر في استنكار كل ما دار حول الراحل، وحول لحظات وداعه الأخير: "كأنه بطل وطني!"، "كأنه مانديلا!"، "كأنه شال الزير من البير!"... إلى ما هنالك من المساهمات المنْكِرة قيمة الرجل الوطنية؛ وذلك من منطلقها الخاص، على اعتبار ان كل من لم يؤيد الممانعة لا يستحق جنازة كهذه، ولا عواطف ولا سياسيين كبار، ولا شخصيات أجنبية.. إلخ. طبعا، جاء الردّ سريعاً، من متكلِّمي الأنتي ممانعة وكتّابها: من أنه لو رحلَ أحد كباركم! لو كان حسن نصر الله مثلاً.. ماذا كنتم ستفعلون؟ جنازة البطريرك على ثلاث أو أربع مرات... 
وفي هذا الجو "السجالي" حول رحيل البطريرك، المشْبع بالحب والكراهية ضمن الصفوف المتقابلة المرصوصة.. في هذا الجو المشتعل بالأصل، جاءت مزحة رئيس الإتحاد العمالي العام، أسعد بشارة، لتضع على زيته زيتاً، فتولِّع الدنيا. ماذا في هذه المزحة؟ أقوالٌ جديرةٌ بكهل يتحسّر على قدراته الجنسية الغابرة. أسقطها صاحبها على البطريرك الراحل، فجاءت من البذاءة بما حطّ من شخص البطريرك، ومن صاحب المزحة نفسه. مزحة رجلٍ يعلن عن عجزه الجنسي، كما يفعل معظم مجايليه، في جلساتهم الحميمة، المغلقة، فكانت الهبّة عالية الصوت؛ استنكارات بالجملة، إدانات، مطالبات بالمحاكمة، وبالزج في السجن، مع توصيةٍ بأقصى العقوبات. وقد أخلي سبيله يوم الاثنين.. وطبعاً، إقالة النقيب البذيء، والتحقيق مع زملائه 
الأربعة الذين استحسنوا "نكتته"، فقهقهوا عالياً عليها، قبل أن ينتبهوا إلى أنها مسجَّلة. ومن التسجيل بالذات، كانت المشكلة. أي أن الكلام كان يمكن أن يكون أكثر بذاءة، ويمرّ مرور الكرام، كما يحصل في غالبية الأحيان. أما أن يسجَّل، ويعرف به الناس، ويعرفوا أن البقية من الناس تعرفه، فهذا شرّ الشرّ. هذا غير أن السياسيين، على اختلاف أصنافهم، يتسمون بالوقاحة والبذاءة. وقد ذاعت أشرطة فيديو، تسجل صفتهم المعيبة هذه؛ أي أن سفاهتهم على مرمى العيون والآذان، وبعضها يسجل أرقاماً قياسية بالمشاهدة.. ولكن بشارة الأسمر؟ فلا وألف لا.
بعد مصادفة تسجيل "مزحته" وإذاعتها، كان بشارة الأسمر ضحيةً لخيط آخر من موازين القوى: إنه رجل رئيس مجلس النواب، نبيه بري. الرجل المستَضعف الآن، وممّن؟ من جبران باسيل، من حليف حليفه، حزب الله؛ ومسْتبق الجميع للصعود إلى عرش الجمهورية، منذ بداية عهد عمّه، ميشال عون؛ فكان بشارة الأسمر البقرة التي تُغري بالذبح، وعلناً. وأسهل العقوبات كانت إقالته من رئاسة الاتحاد العمالي العام، مع أنها سوف تكلّف عرّابه، نبيه بري، غالياً، فجلاده جبران باسيل يستعد الآن للانقضاض على الاتحاد العمالي العام، لتعيين أحد رجاله في الرئاسة، وفقاً لقوانين لعبة رقعة الشطرنج العارية، حيث الهدف هو الإبقاء على ملك واحد، لا ملكَين. وهذه معركة أخرى، لا تكمن أهميتها إلا بما سوف يرْشح عنها من تجاذباتٍ بين أصحاب الحصص الكبرى في السلطة، حول موقعٍ لا يجوز لهم أصلاً، فهم ليسوا ممثلين للعمال. هم ممثلون للأحزاب الحاكمة. ولكن موازين القوى!
المهم الآن أن بشارة الأسمر اقتيد إلى القضاء، وتم "التحقيق" معه. تحقيق حول ماذا؟ حول صعوبات الشيخوخة؟ حول ضبط اللسان؟ حول الانتباه من الحيطان، صاحبة الآذان؟ بعد 
التحقيق، أودع السجن، حيث خرج بعد لأي بكفالة. وهو مهدَّد بعقوبة الحبس بين سنة وثلاث سنوات.. والتهمة: "بذاءة"، لا توجد مادة قانونية واحدة تعاقب عليها، ولكن القضاء اللبناني!
كان من البديهي أن ترتفع أصوات تستنكر بشدة، ترافع بالحريات الشخصية، وحرية التعبير، تفنّد القوانين، وتستهول الاعتقال التعسّفي هذا.. وكان الأكثر بديهيةً أن يكون أصحاب هذه الأقلام من جماعة الممانعة، فالخريطة السياسية هي هكذا. ولكن، أيضاً، هنا، لم تتأخر الأقلام الأنتي ممانعة من استنكار شدة هذا الاستنكار، ومن إيراد الأسماء إياها، حسن نصر الله: هل كنتم ستحتجون على اعتقال البذيء بحقه؟ هل نسيتم القنابل الحارقة على المحطّات التلفزيونية، وتوقيف البرامج، وإحراق الدواليب واستدعاءات.. ضد كلمةٍ طلعت بحق واحد من قدّيسكم؟
شدّ الحبال "الموضعي" حول بشارة الأسمر لن ينتهي. يدور الآن حول الحريات، وتنقسم الساحة فيه بين مؤيد ومعارض، لا للحريات، أو التعبير، أو حقوق الإنسان؛ إنما لهذا المحور أو ذاك. ممانعة أو أنتي ممانعة. على هذه القاعدة الانقسامية، ما زلنا عائشين. ولا همّ إذا كانت حرية أو لا حرية. المهم انتصار جماعتنا، فهذا "السجال" يدور في دائرةٍ ضيقةٍ واحدة، عمادها المحاصصة: حصص على الحزن والحداد، وحصص على الحريات وحقوق الإنسان: مسخ نظام المحاصصة الولادة. ولا معنى، في ظله للحديث عن الحريات. فيما الذي يستحق الالتفاتة عن نكتة الأسمر: إنه لا أثر فيها للذكورة؛ بل بالعكس، إنها الصورة الغليظة التي يجرْجرها الكهول على أكتافهم، عن فقدانهم ذكورتهم تحديداً؛ وعن "الدعم" الاجتماعي لهذه الصورة، بما يتجاوز قدرتهم على التحمّل، فتكون السماجة والسفاهة في حالتهم تعبيراً عن استيائهم من أنفسهم، من مآلهم؛ قبل استيائهم من طريدة "نكتتهم"، إذ يكون شرش الحياء قد طقّ، من شدة حزنهم على أنفسهم.
دلالات