31 أكتوبر 2024
البعد الأفريقي في الدبلوماسية المغربية
كثّف المغرب، منذ سنوات، حضوره في عدد من الدول الأفريقية، وقام الملك محمد السادس بسلسلة من الجولات للدفع بمسلسل تعاون جنوب - جنوب إلى الأمام، في إطار المعادلة الاقتصادية رابح - رابح، والتي تنهض على رؤيةٍ استرتيجيةٍ، عمادها نسج الشراكات القوية بين المغرب ودول أفريقية، خصوصاً في جناحها الغربي، والسعي إلى قيام تكتل اقتصادي في القارة السمراء، قادر على التفاوض والدفاع عن المصالح الحيوية للقارة، كما أن هذه الاستراتجية المرتبطة بأسلوب حكم الملك محمد السادس تتأسّس على البحث عن شركاء جدد، في إطار سياسة تعدّد الشركاء التي بات ينتهجها المغرب في علاقاته الاقتصادية والتجارية، على الصعد الدولية والقارية والإقليمية.
وكان لافتاً انزياح جولات الملك محمد السادس، أخيراً، نحو دول أفريقيا الشرقية، حيث زار رواندا وتنزانيا، وتم تأجيل زيارة كانت مقرّرة إلى أثيوبيا. واعتبر المتابعون هذا الحراك الاستراتيجي تحولاً جوهرياً في الدبلوماسية المغربية، على اعتبار أن الدول التي تقع في الشطر الشرقي من القارة لا تحسب على المجال الفرنكفوني التقليدي، بل هي تدور في الفلك الأنغلوساكسوني، وكل واحدة من هذه الدول الثلاث تشكل وزناً تاريخياً، ونموذجاً قائما بذاته، في ميدان التنمية والمصالحة بين مكونات المجموعة الوطنية، كما هو الشأن بالنسبة لرواندا التي تمكّنت من إحداث قطيعة جريئة مع أفظع فصل في تاريخها الحديث، علاوة على أن هذه الدول تميزت بتأييدها جبهة بوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء، فيما المغرب يعتبرها جزءا من ترابه الوطني، وقدم بشأنها خطة للحكم الذاتي أعلى سقفٍ يمكن أن يصل إليه. وقد مكّنت الرؤية البراغماتية والمراجعات الذكية، التي قامت بها الدبلوماسية المغربية إزاء تدبير علاقاتها مع دول أفريقية عدة، الرباط من تغيير معايير تصنيف الدول الأفريقية على أساس
موقفها من الصحراء، خصوصاً بعد توجيه المملكة المغربية قبل شهور طلب الالتحاق بالاتحاد الأفريقي، بعد غياب دام حوالى 23 سنة، في قرار الملك الراحل الحسن الثاني، في رد فعل منه على قبول "بوليساريو" عضواً في منظمة الوحدة الأفريقية (قبل أن تصبح الاتحاد الأفريقي)، فيما تفتقر الجبهة المذكورة إلى مقومات الدولة. وبصرف النظر عن السياق الذي اتخذ فيه قرار الانسحاب، والملابسات التي أحاطته، والتبريرات التي أعطيت له، فإنه، في جميع الأحوال، كلف المغرب خسائر دبلوماسية وسياسية وجيو- استراتيجية جسيمة، حيث وجدت الجزائر والدول الموالية لها في ذلك الانسحاب فرصةً لا تعوض لفرض الأمر الواقع، وتوجيه الاتحاد الأفريقي الوجهة التي تخدم أجندتها ومصالحها، على الرغم من تعاطف دول أعضاء في الاتحاد مع المغرب في معركة وحدته الترابية.
وتأسيساً على ذلك، لم تكن جولات الملك محمد السادس، أخيراً، في دول في أفريقيا الشرقية، خاضعة لمقياس تكتيكي، أو لعوامل ظرفية عابرة، بل كانت خطوةً مدروسةً بعناية، وهذا ما عكسه الخطاب الذي وجهه الملك محمد السادس من العاصمة السنغالية داكار، بمناسبة الذكرى 41 للمسيرة الخضراء التي تعتبر من بنات أفكار الملك الحسن الثاني لاسترجاع الصحراء بطريقة سلمية، من دون إراقة قطرة دم، فهذا الخطاب الذي وجه، لأول مرة، من خارج المغرب إلى الشعب المغربي، وإلى الدول الأفريقية، تخللته كتلةٌ من الدلالات، لعل أبرزها تأكيد العاهل المغربي أن عودة بلاده إلى الاتحاد الأفريقي حق مشروع، وتضمنه الأغلبية الساحقة للأعضاء المكونين للاتحاد، كما أن ما يبرّر هذه العودة، ويضفي عليها الشرعية والمصداقية، هو العمل الميداني الذي اعتمده المغرب في استراتيجيته الدبلوماسية، القائمة على مقاربةٍ تكامليةٍ، تتأسس على التضامن والشراكة الاقتصادية التي تهدف إلى تحويل أفريقيا إلى معادلة أساسية ومركزية في التكتلات الاقتصادية العالمية، كما أن هذه العودة تجسّد قراراً استراتيجياً يكتسي أبعاداً قوية، خصوصاً على مستوى التصدّي من داخل الاتحاد، للمناورات التي يروجها خصوم وحدته الترابية، وتصحيح المغالطات التي يسوقونها، واستعداده للانخراط في التنمية القطاعية في أفريقيا، ووضع التجربة المغربية في عدد من المجالات رهن إشارة القارة، إضافة إلى أن من شأن استئناف المغرب نشاطه في هياكل الاتحاد الأفريقي ومؤسساته أن يساهم في إسماع صوت الأفارقة في المحافل الدولية، كما ستحفز المغرب أكثر إلى مضاعفة جهوده في مجال مكافحة الإرهاب والتطرّف، وفي العمل على حل أزمات وخلافات تحول دون استجماع القارة السمراء أنفاسها، بغية التفرّغ للتحديات التنموية، وفي طليعتها ضمان الأمن الغذائي والاستقرار السياسي، عبر انبثاق مؤسسات ديمقراطية قوية قادرة على الصمود في وجه الانقلابات العسكرية المفاجئة، والنعرات القبلية، والأمزجة السياسية المتقلبة.
ولعل اختيار الملك محمد السادس خريطة القارة الأفريقية خلفيةً لتأثيث الخطاب الذي وجّهه من داكار، عوض شعار المملكة، بمثابة إعلان مبادئ ونياتٍ وتوجهاتٍ لا رجعة فيها حيال المجموعة الأفريقية، كما أن الانتصار لهذه الخلفية يمكن تفسيره سيميائياً بأنه تعبير صريح ومكثف عن إرادة قوية صادرة من أعلى سلطةٍ لإثارة انتباه الدول والمجتمعات الأفريقية إلى جدية الاختيارات الدبلوماسية والاستراتيجية الجديدة ومصداقيتها، وهي الاختيارات التي باتت الرباط تنتهجها، بهدف خدمة الأجندة التنموية للقارة، واحتواء أسباب الصراعات والتفكّك، بما يضمن وحدة دولها، وتماسك مجتمعاتها وتسييجها أمنياً، لتفادي خطر التنظيمات الإرهابية عابرة الحدود.
لكن تعبير المغرب عن حسن النية، وإطلاقه مجموعةً من الإشارات الإيجابية، واستعداده للترافع عن القضايا العادلة للقارة الأفريقية، قد يصطدم بمقاومة شرسة من الجزائر، وبعض حلفائها مثل جنوب أفريقيا ونيجريا. والمؤشر على هذه المقاومة، تماطل نكوسازانا دلا ميني زوما، المرأة الحديدية الجنوب أفريقية في توزيع طلب الالتحاق الذي وجهه المغرب إلى الاتحاد الأفريقي، علماً بأنها تترأس أقوى جهاز تنفيذي فيه (مفوضية الاتحاد). وينتظر المغرب معارك دبلوماسية ساخنة على الجبهات كافة، قبل انعقاد قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا في يناير/ كانون الثاني المقبل، فالجزائر تتابع بقلق تحركات المغرب وجولات عاهله، وتدفع في اتجاه إسناد مفوضية الاتحاد الأفريقي إلى إحدى الدول التي يتشكل منها المحور الذي تقوده ضد المغرب. وتعمل الرباط جاهدة لقطع الطريق على هذا التوجه، بحشد الدعم لصالح مرشح دولة صديقة، قد تكون السنغال التي تعد حليفا قوياً وثابتاً للرباط، وتربطها بالمغرب علاقات تاريخية ووشائج روحية وإنسانية وثقافية، وتعاون في الميادين كافة. وتعميقاً لهذا الصراع، وتكثيفاً للقلق الذي تشعر به الجزائر، وفي محاولةٍ لتوجيه الأنظار عن الاختراق الاقتصادي المغربي القارة الأفريقية، أعلن وزير خارجيتها، رمضان لعمامرة، عزمها تنظيم الدورة الأولى للمنتدى الأفريقي للاستثمار والأعمال في أوائل ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
وكان لافتاً انزياح جولات الملك محمد السادس، أخيراً، نحو دول أفريقيا الشرقية، حيث زار رواندا وتنزانيا، وتم تأجيل زيارة كانت مقرّرة إلى أثيوبيا. واعتبر المتابعون هذا الحراك الاستراتيجي تحولاً جوهرياً في الدبلوماسية المغربية، على اعتبار أن الدول التي تقع في الشطر الشرقي من القارة لا تحسب على المجال الفرنكفوني التقليدي، بل هي تدور في الفلك الأنغلوساكسوني، وكل واحدة من هذه الدول الثلاث تشكل وزناً تاريخياً، ونموذجاً قائما بذاته، في ميدان التنمية والمصالحة بين مكونات المجموعة الوطنية، كما هو الشأن بالنسبة لرواندا التي تمكّنت من إحداث قطيعة جريئة مع أفظع فصل في تاريخها الحديث، علاوة على أن هذه الدول تميزت بتأييدها جبهة بوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء، فيما المغرب يعتبرها جزءا من ترابه الوطني، وقدم بشأنها خطة للحكم الذاتي أعلى سقفٍ يمكن أن يصل إليه. وقد مكّنت الرؤية البراغماتية والمراجعات الذكية، التي قامت بها الدبلوماسية المغربية إزاء تدبير علاقاتها مع دول أفريقية عدة، الرباط من تغيير معايير تصنيف الدول الأفريقية على أساس
وتأسيساً على ذلك، لم تكن جولات الملك محمد السادس، أخيراً، في دول في أفريقيا الشرقية، خاضعة لمقياس تكتيكي، أو لعوامل ظرفية عابرة، بل كانت خطوةً مدروسةً بعناية، وهذا ما عكسه الخطاب الذي وجهه الملك محمد السادس من العاصمة السنغالية داكار، بمناسبة الذكرى 41 للمسيرة الخضراء التي تعتبر من بنات أفكار الملك الحسن الثاني لاسترجاع الصحراء بطريقة سلمية، من دون إراقة قطرة دم، فهذا الخطاب الذي وجه، لأول مرة، من خارج المغرب إلى الشعب المغربي، وإلى الدول الأفريقية، تخللته كتلةٌ من الدلالات، لعل أبرزها تأكيد العاهل المغربي أن عودة بلاده إلى الاتحاد الأفريقي حق مشروع، وتضمنه الأغلبية الساحقة للأعضاء المكونين للاتحاد، كما أن ما يبرّر هذه العودة، ويضفي عليها الشرعية والمصداقية، هو العمل الميداني الذي اعتمده المغرب في استراتيجيته الدبلوماسية، القائمة على مقاربةٍ تكامليةٍ، تتأسس على التضامن والشراكة الاقتصادية التي تهدف إلى تحويل أفريقيا إلى معادلة أساسية ومركزية في التكتلات الاقتصادية العالمية، كما أن هذه العودة تجسّد قراراً استراتيجياً يكتسي أبعاداً قوية، خصوصاً على مستوى التصدّي من داخل الاتحاد، للمناورات التي يروجها خصوم وحدته الترابية، وتصحيح المغالطات التي يسوقونها، واستعداده للانخراط في التنمية القطاعية في أفريقيا، ووضع التجربة المغربية في عدد من المجالات رهن إشارة القارة، إضافة إلى أن من شأن استئناف المغرب نشاطه في هياكل الاتحاد الأفريقي ومؤسساته أن يساهم في إسماع صوت الأفارقة في المحافل الدولية، كما ستحفز المغرب أكثر إلى مضاعفة جهوده في مجال مكافحة الإرهاب والتطرّف، وفي العمل على حل أزمات وخلافات تحول دون استجماع القارة السمراء أنفاسها، بغية التفرّغ للتحديات التنموية، وفي طليعتها ضمان الأمن الغذائي والاستقرار السياسي، عبر انبثاق مؤسسات ديمقراطية قوية قادرة على الصمود في وجه الانقلابات العسكرية المفاجئة، والنعرات القبلية، والأمزجة السياسية المتقلبة.
ولعل اختيار الملك محمد السادس خريطة القارة الأفريقية خلفيةً لتأثيث الخطاب الذي وجّهه من داكار، عوض شعار المملكة، بمثابة إعلان مبادئ ونياتٍ وتوجهاتٍ لا رجعة فيها حيال المجموعة الأفريقية، كما أن الانتصار لهذه الخلفية يمكن تفسيره سيميائياً بأنه تعبير صريح ومكثف عن إرادة قوية صادرة من أعلى سلطةٍ لإثارة انتباه الدول والمجتمعات الأفريقية إلى جدية الاختيارات الدبلوماسية والاستراتيجية الجديدة ومصداقيتها، وهي الاختيارات التي باتت الرباط تنتهجها، بهدف خدمة الأجندة التنموية للقارة، واحتواء أسباب الصراعات والتفكّك، بما يضمن وحدة دولها، وتماسك مجتمعاتها وتسييجها أمنياً، لتفادي خطر التنظيمات الإرهابية عابرة الحدود.
لكن تعبير المغرب عن حسن النية، وإطلاقه مجموعةً من الإشارات الإيجابية، واستعداده للترافع عن القضايا العادلة للقارة الأفريقية، قد يصطدم بمقاومة شرسة من الجزائر، وبعض حلفائها مثل جنوب أفريقيا ونيجريا. والمؤشر على هذه المقاومة، تماطل نكوسازانا دلا ميني زوما، المرأة الحديدية الجنوب أفريقية في توزيع طلب الالتحاق الذي وجهه المغرب إلى الاتحاد الأفريقي، علماً بأنها تترأس أقوى جهاز تنفيذي فيه (مفوضية الاتحاد). وينتظر المغرب معارك دبلوماسية ساخنة على الجبهات كافة، قبل انعقاد قمة الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا في يناير/ كانون الثاني المقبل، فالجزائر تتابع بقلق تحركات المغرب وجولات عاهله، وتدفع في اتجاه إسناد مفوضية الاتحاد الأفريقي إلى إحدى الدول التي يتشكل منها المحور الذي تقوده ضد المغرب. وتعمل الرباط جاهدة لقطع الطريق على هذا التوجه، بحشد الدعم لصالح مرشح دولة صديقة، قد تكون السنغال التي تعد حليفا قوياً وثابتاً للرباط، وتربطها بالمغرب علاقات تاريخية ووشائج روحية وإنسانية وثقافية، وتعاون في الميادين كافة. وتعميقاً لهذا الصراع، وتكثيفاً للقلق الذي تشعر به الجزائر، وفي محاولةٍ لتوجيه الأنظار عن الاختراق الاقتصادي المغربي القارة الأفريقية، أعلن وزير خارجيتها، رمضان لعمامرة، عزمها تنظيم الدورة الأولى للمنتدى الأفريقي للاستثمار والأعمال في أوائل ديسمبر/ كانون الأول المقبل.