الاقتصاد السلوكي Behavioral Economics، وفي داخله فرع المالية السلوكية Behavioral Finance، هو علم يمزج بين الاقتصاد وعلم النفس، ويقدم بعض الأفكار القيمة فيما يتعلق بالمواقف التي لا يتصرف الأفراد فيها بصورة تتفق ومصالحهم الخاصة، ويبين لنا متى وكيف ولماذا يرتكب المستثمرون، والبشر عموماً، أخطاء فيما يتعلق بإدارة أموالهم واستخدامها الاستخدام الأمثل.
وقبل يومين كتب سفتلانا غيرزي، المتخصص بالمالية السلوكية ببنك يو بي إس السويسري العملاق، مقالاً يربط فيه بين بعض سلوكيات الأفراد ومستويات الأسعار التي وصلت إليها البيتكوين، العملة المشفرة الأشهر، خلال العام الحالي.
ورصد غيرزي في مقاله تغير نظرة الكثير من المستثمرين للعملة، حيث أصبحوا يرونها "فرصة للكسب السريع"، بعد أن كانت قبل أيام قليلة "عملة غامضة، لا يُعرف أصلها، ولا يمكن تعقبها".
وأشار غيرزي إلى استحالة تجاهل المكاسب التي حققتها العملة، والتي تجاوزت 1800% خلال عام 2017 فقط، وهو ما انعكس في وسائل الإعلام حول العالم، حيث استحوذت البيتكوين على العناوين الرئيسية في جرائد فاينانشيال تايمز ووول ستريت جورنال ومجلة الإيكونوميست عدة مرات.
وقال غيرزي إنه عند وصول سعر العملة لمستوى عشرة آلاف دولار لأول مرة (سعرها الآن يتجاوز 19000 دولار)، وظهور أخبارها على صدر صفحات المجلات الاقتصادية الشهيرة، وفي نشرات الأخبار في التلفزيون والراديو، تجرأ الكثير من المستثمرين حول العالم وقرروا شراءها.
ولكن الحقيقة، كما يقول غيرزي، أن زيادة الاهتمام بالعملة جعلنا نألفها وهي الغامضة، وهو ما أدى إلى خلق ما يسمى "الانحياز للمألوف" أو Familiarity bias.
وهذا الانحياز يجعلنا نقلل من المخاطر الحقيقية الموجودة في ذلك النوع من الاستثمار، فلا نرى إلا الاتجاه الصعودي للبيتكوين، وتكون على أبصارنا غشاوة الإثارة بسبب المكاسب المنتظرة.
ويؤكد المقال أن الطبيعة البشرية تميل إلى تقليد من حولها، ويظهر ذلك في اتباع الموضة، واختيار الأماكن التي نعيش فيها، والمطاعم التي نذهب إليها، كما في قراراتنا الاستثمارية.
ولذلك، فإن خوف المستثمرين من ضياع الفرصة Fear of missing out ، أو ما يطلق عليه اختصاراً "فومو" FOMO، يحركهم ويدفعهم للتعرض لمخاطر جسيمة، وقد أفادت بعض التقارير باتجاه بعض المستثمرين مؤخراً للاقتراض من أجل الاستثمار في البيتكوين وغيرها من العملات المشفرة.
ذكرني المقال بقصة تاجر الفئران الذي ذهب إلى إحدى القرى المشهورة بانتشار الفئران فيها، وأعلن أنه يرغب في شراء عدد من الفئران، بسعر مائة دولار للفأر الواحد. اعتقد الجميع أنه مجنون، لكن البعض سارع إلى الإمساك بما استطاع من فئران، وباعها للتاجر، وحصل منه على مائة دولار لكل فأر. انتشرت الأخبار بعد ذلك، فسارع آخرون من سكان القرية إلى الإمساك بفئران أخرى، وقدموها للرجل، فدفع لهم مائة دولار عن كل فأر.
بعد عدة أيام، أعلن التاجر أنه سيشتري الفئران بسعر مائتي دولار لكل فأر، فانطلق سكان القرية اللاهثون وراء المكسب السريع لمطاردة الفئران، فأمسكوا منها ما استطاعوا، وباعوها كلها للتاجر، وحصلوا على مقابل ما باعوه كما وعد التاجر.
بعد ذلك أعلن التاجر عن رغبته في شراء ما تبقى من فئران في القرية مقابل 500 دولار للفأر الواحد، فطار النوم من أعين سكان القرية، وانطلقوا وهم يتخافتون، لرغبة كل منهم بالعثور قبل غيره على ما تبقى من فئران.
وبالفعل جمعوا عشرة فئران، كانت هي كل ما تبقى منها، وأعطوها للتاجر، وحصلوا منه على 500 دولار مقابل كل فأر، ثم عادوا إلى بيوتهم، ولم يشغلوا بالهم بسلامة عقل التاجر، وإنما كان كل تركيزهم على إعلان التاجر الجديد عن السعر الذي سيشتري به الفئران في المرة القادمة.
بعد عدة أيام، أعلن التاجر عن ذهابه إلى إحدى المدن البعيدة في مهمة عمل، كما أعلن أنه عند عودته سيقوم بشراء الفئران بسعر ألف دولار للفأر الواحد! وطلب الرجل من أحد مساعديه الاهتمام بالفئران التي اشتراها لحين عودته. هذا المساعد بقي في القرية، واحتفظ بالفئران في قفص، لحين عودة التاجر بعد أسبوع.
ولما كانت الفئران قد اختفت تماماً من القرية، فقد حزن سكانها بشدة لعدم تمكنهم من الحصول على أي منها، ولضياع فرصة البيع بألف دولار! لكن مساعد التاجر أخبر بعضهم أنه يمكنه بيع بعض ما لديه من فئران – سراً - بسعر سبعمائة دولار للفأر الواحد. وانتشر "الخبر السري" في القرية كالنار في الهشيم، وسارعوا جميعاً لشراء الفئران بسعر سبعمائة دولار، بل وعرض بعضهم ثمانمائة دولار للفأر الواحد للحصول على عدد أكبر من الفئران، أملاً في البيع بسعر ألف دولار عندما يعود التاجر.
باع المساعد كل ما لديه من فئران، بأسعار تتراوح بين 700-800 دولار، حيث اشترى أغنياء القرية كميات كبيرة منها، بينما اقترض فقراؤها لشراء بعضها. واحتفظ أهل القرية بفئرانهم، انتظاراً لعودة التاجر، الذي لم يعد أبداً. ولما ذهبوا للمساعد الذي باعهم الفئران، لم يعثروا عليه، لكنهم وجدوا ورقة على باب بيته تقول أنه ذهب لشراء قفص كبير يسع ما ينوي هو والتاجر شراءه من بهائم من القرية، بعد أن عرفوا أن القرية بها من البهائم أكثر كثيراً من الفئران!
فإن كانت شهية المخاطر عندك تسمح بشراء البيتكوين مع ما بها من مخاطر، وغياب لكل أساسيات التحليل الفني أو الأساسي، فلتفعل، لكن لابد من وضع مبلغ محدد لأقصى ما يمكنك المغامرة به، مع تحديد حد أقصى للخسارة التي يمكنك تحملها، يتم عندها البيع فوراً، حتى لا تأتي الخسارة على كل ما تملك.
وفي نفس الوقت، لابد من تحديد مستويات ربحية يتم عندها البيع، مثل تحقيق مكسب بنسبة 25% على سبيل المثال، حيث سيساعد ذلك على تحديث نقاط حد الخسارة الأقصى، كما يؤدي لتحقيق الأرباح فعلياً، وتقليل الخسائر في المستقبل.