جاء امتناع مصر عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، أول من أمس، بشأن إنشاء آليات دولية مستقلة تساعد على التحقيق والملاحقة القضائية بخصوص الجرائم الأشد خطورة، بحسب تصنيف القانون الدولي، المرتكبة في سورية منذ مارس/آذار 2011، ليزيد التوتر بين السعودية ومصر. وأيّدت 105 دول القرار، في حين عارضته 15، وامتنعت عن التصويت 52 دولة. وشاركت أكثر من 50 دولة في صياغة وتقديم مشروع القرار، من بينها، عربياً، السعودية والإمارات والبحرين وقطر والكويت واليمن، في حين علل مندوب مصر امتناع بلاده عن التصويت بالقول إنه لم يتم التشاور مع المجموعة العربية، وبلاده على وجه التحديد، خلال إعداد مشروع القرار، معتبراً أن "هناك غموضاً وعدم وضوح في ما يتعلق بالصلة بين قرار الجمعية العامة وبيان جنيف المتعلق بسورية".
وتؤكد مصادر سياسية رسمية وغير رسمية، أن التقارب بين البلدين بات بعيداً على الأقل في هذه المرحلة، خصوصاً بعدما صعّد كلا الجانبين تجاه الآخر بأشكال مختلفة، كان آخرها السلاح الإعلامي وكيْل الاتهامات والسباب لرموز البلدين. وقالت مصادر دبلوماسية مصرية إن الوساطات الخليجية ما زالت قائمة لرأب الصدع، مشيرة إلى أن دوائر خليجية طالبت القاهرة بوقف السجال الإعلامي، من جانب بعض الإعلاميين المحسوبين على السلطة، موضحة أن "إحدى القيادات الخليجية البارزة حذرت شخصية كبيرة في النظام المصري، قائلة لا تضعوا الخليج في مأزق معاداتكم، خصوصاً أنه في حال صدور أي إهانات من جانب الإعلام سيكون من الصعب الوقوف إلى جواركم"، مشددة على أن الخليج لا ينسى إهانة زعمائه. وأكدت المصادر أن المساعي الخليجية تدور في فلك تقريب وجهات النظر بشأن الملفات محل النزاع، ومطالبة مصر بمواقف أكثر مرونة تجاه الرؤى السعودية.
من الحميمية إلى الصدام
ولم يكن الحال الذي وصلت له العلاقات بين النظام المصري الحالي، والسعودية، ليخطر على بال أكثر الداعمين للنظام المصري، إذ كانت الرياض من أقوى الداعمين لنظام الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، منذ أن كان وزيراً للدفاع، في أعقاب الثلاثين من يونيو/حزيران 2013. وأظهرت الإحصاءات الرسمية أن السعودية تعد الدولة الأولى من حيث المساعدات المالية التي قُدمت للقاهرة في أعقاب الانقلاب على الرئيس المعزول، محمد مرسي، بما يقدر بنحو 20 مليار دولار، ما بين مساعدات مالية مباشرة، وودائع بنكية لدعم الاحتياطي النقدي، ومشتقات بترولية.
كيف تحول المشهد من ثناء السيسي على دور المملكة في دعم مصر، عندما خرج في حديثه خلال ترشحه للرئاسة في 14 مايو/أيار 2014، مستفيضاً في عبارات الثناء والشكر والتقدير للمملكة، وقائدها وقتها الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، قائلاً إنه حكيم العرب وكبيرهم، والذي قدمت المملكة في عهده مساعدات لمصر بقيمة 20 مليار دولار، ليصبح المشهد بعد ذلك هجوماً على المملكة ورموزها من جانب دوائر سياسية وإعلامية مصرية، وصلت إلى حد وصف السعودية، على صدر مجلة "المصور" التي تصدر عن دار الهلال القومية، بـ"الحاقدين"، بالإضافة لتبني مواقف معادية للموقف السعودي في كثير من الملفات المفتوحة التي تشهدها المنطقة.
الملف اليمني
البداية كانت في 18 فبراير/شباط 2016، عندما أكد السيسي أن دولته على أهبة الاستعداد للدفاع عن أشقائها في الخليج في حال تعرضهم لتهديد مباشر، مؤكداً أن القوات المصرية العسكرية هي جيش كل العرب، قبل أن ينقلب الحال وتدبّ أول نقاط الخلاف بين الدولتين الحليفتين، عندما طلبت الرياض من القاهرة المشاركة بفاعلية في عملية "عاصفة الحزم" لدعم الشرعية في اليمن، قبل أن تتلكأ مصر، بحسب مصادر دبلوماسية قريبة الصلة من ملف العلاقات المشتركة.
وأشارت المصادر إلى أن القاهرة أعلنت، على مضض، مشاركتها بقوات بحرية تأمينية، قبل أن تعلن موقفها صراحة برفضها المشاركة في العمليات، وتوسيع حجم قواتها، بسبب تحالف المملكة مع حزب الإصلاح اليمني (جماعة إخوان اليمن)، ضد قوات الحوثيين، وحزب المؤتمر الشعبي، الذي يتزعمه الرئيس المخلوع، علي عبد الله صالح. وأمام الإلحاح السعودي على دفع القاهرة بقوات برية لسرعة حسم العمليات هناك، رفض النظام المصري، مشترطاً الاعتماد على حزب علي عبد الله صالح، حتى لا تسقط اليمن بعد التخلص من الحوثيين في أيدي "الإخوان"، ليدق بذلك أول مسمار في نعش العلاقات بين النظام المصري والرياض. وما زاد الطين المصري بلة، بحسب مصادر مقربة من السفير السعودي في القاهرة أحمد القطان، هو رصد المملكة للقاءات سرية جرت بين أطراف من دوائر أمنية مصرية رسمية، ومسؤولين إيرانيين من دون علم المملكة.
الملف السوري
ظل الملف السوري محل سجال بين الجانبين. وعلى عكس الملف اليمني، كان الموقف المصري بشأن سورية مختلفاً تماماً عن نظيره السعودي، وبالتحديد ما يتعلق بمصير رئيس النظام بشار الأسد، إذ تتبنى المملكة إقصاء الأسد تماماً عن العملية السياسية، ونظير ذلك دعمت المعارضة ضده، في حين ترفض مصر رفضاً قاطعاً تبني هذه الرؤية، مشترطة التمسك ببقاء الأسد، ومؤسسات حكمه، بدعوى عدم سقوط سورية في أيدي التنظيمات المتطرفة. وأمام تصريحات متفاوتة أظهرت وجود تناقض في الموقفين في أكثر من مناسبة عبر شخصيات سياسية بارزة من الطرفين، جاء الموقف المصري في مجلس الأمن ليضع كلمة النهاية بشأن الملف السوري بين البلدين، بعدما صوّتت القاهرة لصالح مشروع قرار بشأن الأوضاع في سورية يتعارض مع الرؤية السعودية، ليخرج الخلاف بين القاهرة والرياض إلى العلن، حين أعلن مندوب المملكة في الأمم المتحدة عدم رضا بلاده عن موقف مصر، واصفاً إياه بـ"المؤلم".
تيران وصنافير
كانت قضية جزيرتي تيران وصنافير بمثابة ذروة الانفجار في العلاقات، بعدما أصرّت الرياض على تنفيذ الاتفاقية التي وقّعها العاهل السعودي الملك، سلمان بن عبد العزيز خلال زيارته للقاهرة في أبريل/نيسان الماضي، بإعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والتي انتقلت بمقتضاها السيادة على الجزيرتين إلى المملكة. وترافق ذلك مع وقف شركة "أرامكو" إمدادات المشتقات البترولية لمصر، التي تقدر بنحو 750 مليون دولار شهرياً.
وساطات فاشلة
أمام التصاعد المتسارع في توتر العلاقات بين البلدين، سعى عدد من دول الخليج، في مقدمتها الإمارات والبحرين والكويت، لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر. وسعت الإمارات لترتيب لقاء بين الرئيس المصري والملك السعودي في أبو ظبي على هامش الاحتفالات بعيدها الوطني، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلا أن محاولاتها باءت بالفشل أمام الإصرار السعودي على رفض المقترح، مشترطين تسلم جزيرتي تيران وصنافير كبادرة حسن نية من الجانب المصري، قبل البدء في خطوات أخرى من شأنها تحسين العلاقات، وهو ما أعلن السيسي استحالته، مؤكدا أنه لا يمكن، بأي حال من الأحوال، تسليم الجزيرتين في الوقت الراهن، لأن هذا يعني الإطاحة به رسمياً. في هذا الشأن، تؤكد مصادر بأن هناك دوائر عسكرية داخل الجيش المصري رفضت بقوة تسليم الجزيرتين للسعودية، مؤكدة أنهما أرض مصرية ولا يجوز التخلي عنهما، كاشفة "أن أطرافاً عسكرية بعثت برسائل لمعارضين مصريين بارزين بالتصعيد السياسي في اتجاه رفض الاتفاقية، وتحريك الشارع، وكان ذلك قبل الاحتجاجات الشعبية التي عُرفت باسم "جمعة الأرض" في 25 أبريل الماضي.
وجاء بيان مجلس التعاون الخليجي مطلع الأسبوع الحالي بمثابة الصدمة للدوائر السياسية المصرية، بعد تأكيد المجلس رفض النهج المصري الزجّ باسم قطر في القضايا الداخلية، وبالتحديد تفجير الكنيسة البطرسية التي راح ضحيتها 26 قتيلاً.
ورقة إثيوبيا
بين عشية وضحاها، انقلب الوضع رأساً على عقب بما يخص ملف سد النهضة الإثيوبي بالنسبة إلى مصر. فبعد أن كانت القاهرة تطلب وساطة الرياض، التي تملك استثمارات كبيرة في إثيوبيا، للضغط على أديس أبابا للرضوخ للمطالب المصرية بشأن السد الذي يهدد حصة مصر التاريخية من مياه نهر النيل، تحولت إثيوبيا إلى ورقة ضغط في يد المملكة ضد نظام القاهرة، بعدما جاءت زيارة المستشار الملكي أحمد الخطيب، إلى إثيوبيا وموقع السد، وعقد لقاء رسمياً مع رئيس الوزراء الإثيوبي، ماريام ديسالين، لتحمل دلالات شديدة الوضوح بشأن موقف السعودية تجاه مصر.