لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، بل رافقته هجرة كثيفة للمواطنين الليبيين، الذين لا يزال يقيم قرابة المليونين منهم في تونس اليوم. ومع حالة الاضطراب الشديدة التي تشهدها ليبيا، وتدفّق الأسلحة، وتسلّل مجموعات متشدّدة عبر الحدود الجنوبيّة، تبدو تونس اليوم أشدّ اقتناعاً بأنّ ثمّة دوراً عليها القيام به في ليبيا، للإسهام في عودة الاستقرار إلى جارتها بأسرع وقت ممكن. تُعدّ التداعيات الاقتصادية للحالة الليبية، كارثيّة على تونس، فضلاً عن أنّ الانعكاس الأمني على استقرار البلد ومساره الانتقالي أشدّ وأكبر.
بادرت تونس، منذ بروز ملامح الأزمة ونوايا الانقسام، إلى محاولة مواجهة العواصف الإقليميّة والدوليّة. دعت إلى حوار ليبي ــ ليبي، وشجّعت على دعوات وجّهتها بعض الأحزاب الليبية من تونس إلى المصالحة الوطنيّة والحوار. استقبلت عدداً كبيراً من الشخصيّات الليبيّة، التي كانت معجبة ومقتنعة بتجربة الحوار التونسية، بعد أن جنّبت البلاد سيناريوهات الفوضى وانكسار التجربة الديمقراطيّة الوليدة.
تعدّدت المساعي التونسيّة، الرسميّة والحزبيّة، لإقناع الفرقاء الليبيين، بضرورة التحاور وتقديم تنازلات مشتركة. بذل الرئيس منصف المرزوقي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي جهداً واضحاً في هذا الاتجاه، قبل أن تتحوّل المساعي إلى مبادرة تونسيّة متكاملة، تقضي بعقد حوار ليبي برعاية الأمم المتحدة.
بعد ذلك، أعلن وزير الخارجيّة التونسي، منجي الحامدي، عن لقاء مغاربي، على أن يليه لقاء مع دول أوروبية لرعاية هذا الحوار، لكن سرعان ما ألغي الطرح السابق مع اقتراح مبادرة دول جوار ليبيا، والتي قلّل عارفون بالشأن الليبي من أهميتها، أو قدرتها على تفعيل مخرج لأزمة ليبيا الراهنة. اصطدمت كل هذه المساعي بفشل واضح، أقلّه حتّى الآن. ويقول مصدر مطلع على تفاصيل الأمور، في العاصمة الليبية، لـ"العربي الجديد"، إنّ "حجم الرهان الإقليمي والدولي في ليبيا، أكبر من المساعي الهادئة، وإنّ أطرافاً عربية، تحديداً، تفضّل حسم الأمر ميدانياً، لا على طاولة الحوار.
ويلفت المصدر ذاته إلى أن "دولاً بعينها، تضخّ أسلحة وأموالا، لا حصر لها في ليبيا، لتغليب طرف على آخر"، مقللاً من "أهميّة جهود دول الجوار في التوصّل إلى حلّ سياسي في ليبيا، إلا في تنسيق حماية حدودها ربّما".
وفي سياق متّصل، يوضح مصدر من حركة النهضة التونسيّة لـ"العربي الجديد"، إن رئيس الحركة، راشد الغنوشي، اتّفق والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، بعد زيارته الأخيرة الى الجزائر، على رفض التدخّل الأجنبي في ليبيا، خصوصاً بعد غارات الطائرات "المجهولة" التي قالت صحيفة "نيويورك تايمز" إنها كانت إماراتية ــ مصرية. ويعرب المصدر ذاته عن اعتقاده بأنّ "شروط إطلاق مبادرة حوار جديدة في ليبيا، غير متوفّرة في الوقت الراهن".
وذكر متابعون، بعد الزيارة، أن الطرفين التونسي والجزائري، اتّفقا على تقسيم الأدوار، بحيث يتكفّل الغنوشي الاتصال بأحزاب سياسيّة إسلاميّة، في حين تسعى الجزائر إلى إقناع بقية الأطراف الليبية، بالجلوس إلى طاولة الحوار، فضلاً عن أطراف عربيّة، على صلات متينة بالجزائر وفرنسا، التي استعادت معها مستوى علاقات جيدة بعد فترة الجفاء المعروفة.
يبدو الموقف التونسي حازماً لناحية رفض التدخّل الخارجي في ليبيا، وكذلك موقف الجزائر، خصوصاً مع صدور دعوات ليبية وغير ليبية، تنادي بضرورة حسم الموضوع دولياً، وتشجّع على التدخّل العسكري الأجنبي المباشر لإيقاف الاقتتال الدائر هناك. وأعلنت وزارة الخارجيّة التونسيّة رفض تونس أن تُستثنى من أي حلّ ليبي، تجري صياغته دولياً، بمعزل عنها، بوصفها معنيّة مباشرة بالأوضاع في ليبيا وهي المتأثر الأول بنتيجتها.
تبدو تونس مؤهلة، نظرياً، أكثر من غيرها، لتأدية دور حقيقي في ليبيا، إذ إنّها على تماس مع كل الأطراف المتنازعة، نظراً لحفاظ أحزاب تونسية مختلفة، على علاقات مع أطراف متنوعة من الطيف السياسي في ليبيا، من إسلاميين وليبيراليين، إضافة الى وجود عدد من المؤثرين في الواقع الليبي في تونس، ومن بينهم رموز من نظام القذافي.
يعزّز هذا الواقع، بالغ الأهميّة، حظوظ تونس على بقية الراغبين في التدخل بتجربة الحوار الناجحة. وتؤثر الحكومة البقاء على مسافة واحدة من الجميع، ومحافظتها على اتصالات مستمرة بالليبيين، في المؤسّسات والأحزاب. أكثر من ذلك، ثمّة اقتناع ليبي بأهمية دور تونس، كمتنفس اقتصادي واجتماعي حيوي للمواطن الليبي، لكنّ هذا الدور الممكن، تعطّله في كل مرة "نوايا خارجيّة واضحة" بحسب ما يراه البعض، وأوهام ليبيّة بإمكانية انتصار طرف على آخر. وعبّر الغنوشي أخيراً، بشكل صريح ومباشر عن هذا الأمر، بإشارته إلى أن التدخّل الخارجي هو جزء من المشكلة، وأنّه على الليبيين أن يقتنعوا بأن الحلّ الوحيد يكمن في الحوار.
تعوّل أطراف كثيرة على إمكانيّة أن تقوم تونس بهذا الدور، حين تهدأ الأمور ويقتنع أطراف النزاع الليبي بأنّه لا يمكن للحلّ العسكري أن يحسم الصراع، لتتهيأ، تبعاً لذلك، ظروف موضوعية لإطلاق حوار حقيقي، من شأنه أن يجنّب ليبيا، الانقسام أولاً، ويدفع الجميع للشروع في إرساء مؤسسات انتقاليّة، يمكن أن تعيد المسار إلى التشكّل من جديد.