27 يونيو 2019
التسفير والتيه السياسي في تونس
محمد المولدي الداودي (تونس)
كلّما أدركت الأحزاب السياسيّة إفلاسها وعجزها عن معالجة القضايا التي تتّصل بحياة المواطنين اليوميّة، وتعبّر عن مطالبهم الحقيقيّة، شرعت في فتح الهوامش بعيداً عن الأعماق، ومن هوامش السياسة في تونس هذه الأيّام الحديث عن ملفّ التسفير.
الحديث عن مسألة التسفير، في هذا الوقت بالذات، استدعاء للمناخ السياسي نفسه الذي استفادت منه أحزاب كثيرة، مناهضة للمكوّنات الحزبيّة التي شكّلت تجربة الترويكا منذ 2012، وبدا جليّا أنّ تلك الأحزاب التي جنّدت الإعلام ومؤسسات الدولة في اعتصام باردو، وفي كلّ تحركّات التعطيل والإفشال التي مارستها الإدارة مع منظمات مهنيّة، وأسقطت بها تجربة حكم رائدة في تاريخ تونس والعالم العربي، المسكون بأشباح الاستبداد والفساد.. تلك الأحزاب لم تكن تحمل مشروعاً سياسيّاً حقيقيّاً، ولا تحمل رؤية اقتصاديّة واجتماعيّة، وإنّما كان حضورها السياسي مشروطاً بمناخ الترهيب والتخويف من خصم سياسي (حركة النهضة ومشتقات المؤتمر)، ولذلك حمّلت هذه الأحزاب الفاقدة كلّ رؤية مرحلة الترويكا كلّ مظاهر الفشل الحاليّة، وأغفلت بذلك ضرورة البحث عن بدائل موضوعيّة وحلول واقعيّة تشخّص في عمق أسباب فشل الدولة الوطنيّة الحديثة، منذ الاستقلال إلى حدود الثورة، في بناء نموذج وطني ثقافي واجتماعي وتربوي واقتصادي وسياسي، يضمن الحريّة والكرامة والعدالة والديمقراطيّة.
تتجاوز مسألة التسفير الأزمة السوريّة، من حيث تاريخيّة هذه الظاهرة، أو من حيث التشكّلات الدعائيّة لها، فمشاركة التونسيين في مناطق التوتّر والحروب، تعود إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي، فقد شارك تونسيون في معارك الحربين العالميّتين، وفي معارك المقاومة الفلسطينيّة والجزائريّة والليبيّة، وشارك آخرون في معارك أفغانستان، وشارك تونسيون جنّدهم نظام معمر القذّافي في معارك تشاد، وشارك آخرون في معارك البوسنة والهرسك ثمّ العراق، وهي بذلك ظاهرة وطنيّة تتناسب مع الواقع الدولي والإقليمي ومقاماته وسياقاته ولا تمثّل استثناء تونسيّا، والحديث عن ضرورة محاكمة المتورّطين في ملفّ التسفير إلى سورية يمرّ حتما بمحاكمة المتورّطين في التسفير إلى مناطق التوتر منذ نظام بورقيبة إلى حدود 2017.
المسألة السوريّة معقدّة، من حيث المنطلقات والتحوّلات والمسارات والمآلات، فمنطلقاتها ثوريّة، إذ كانت استجابة شعبيّة لروح الثورات العربيّة التي انطلقت بذرتها الأولى في تونس، والتشكيك في المنطلقات الثوريّة للأحداث في سورية يساوي بالضّرورة التشكيك في كلّ الثورة التونسيّة، بداية ومنجزاً. ولذلك، يحمل الاختلاف في توصيف الأحداث في سورية رؤية إيديولوجيّة، تستند أساساً على المواقف المتناقضة بين فرقاء السياسة في تونس من النّظام السوري.
كانت التعبئة غير نظاميّة، واتخذت شكل التفاعل الوجداني الممزوج بأبعاد دعائيّة مذهبية، وهذا ما تجلّى في مقاطع الفيديو التي تنشر على الإنترنت، أو في خطب بعض الأئمّة المحسوبين على التيّارات السلفية، وهذا ما يفسّر التناقضات والإنكفاءات التي رسمت تعرّجات مسار الثورة السوريّة واختلاف المواقف الدوليّة منها وتباين حجم التورّط العالمي فيها.
وفي ظلّ هذا الاختلاف الحادّ بين فرقاء السياسة في تونس، ظلّت المسألة السوريّة محلّ تجاذب كبير بين الخصوم، وهو تجاذب يعكس استقطاباً عالمياً. ولم تكن مسألة التسفير أبداً نظاميّة في البعدين (مع النّظام أو ضدّه)، وإنّما كانت مسألة "شعبيّة" متّصلة بحجم الاختلاف السياسي والإيديولوجي، فالذين سافروا إلى سورية، لقتال النّظام وجدوا غطاء فقهيّاً، ووجدوا دعماً شعبيّاً من المتعاطفين مع الثورة السوريّة، وكذلك الذين سافروا إلى سورية للقتال إلى جانب النّظام وجدوا غطاء حزبيّاً من الأحزاب القوميّة، ووجدوا تمويلاً في إطار رؤية سياسيّة، لها امتدادات إقليميّة، ترى في ما يحدث في سورية مؤامرة كونيّة على آخر قلاع الممانعة العربيّة. ولذلك تلاشت عناصر الاختلاف العميق والتاريخي بين إيران وحزب الله من ناحية، والتيارات القوميّة من ناحية أخرى، وتشكّل تحالف موضوعي، تغاضى فيه الكلّ عن معالم العداء التاريخي بين القوميين العرب وإيران.
يبدو ملفّ التسفير في تونس، وغيرها من البلدان، معبّراً عن فضاء استخباراتي أشمل من المسألة السورية، ويهدف إلى تخريب الثورات، فالذين أشرفوا على تجنيد الشباب، والدفع به إلى ميادين المعارك في مناطق التوترّ في ليبيا والعراق وسورية لهم تجارب سابقة في الحرب في أفغانستان والعراق، منذ زمن بورقيبة وبن علي، ومن المعلوم عند الدوائر الاستخباراتية العالمية حجم التواطؤ بين نظام بشّار والجماعات الجهاديّة المقاتلة للقوّات الأميركيّة في العراق، قبل موجة الثورات العربيّة. والمعلوم أنّ زعيم تيار أنصار الشريعة، سيف الله بن حسين، المكنّى بأبي عياض، كان ممن قاتل في أفغانستان وسافر للقتال في العراق، كما يظلّ ملف المدعو أبي بكر الحكيم ملفّا غامضا، وكذلك ملف أحمد الرويسي، العقل المخطّط لكلّ العمليات الإرهابيّة في تونس، والذي رفضت حكومة مهدي جمعة تسلّمه بعد القبض عليه في ليبيا. ومن المعلوم أنّ أحمد الرويسي تربّى في دوائر المخابرات السوريّة، وله علاقات برموز من النّظام السابق، ويبدو أنّه كان عنصر اختراق للجماعات السلفيّة زمن نظام بن علي.
ملفّ التسفير في تونس هو الشجرة التي تخفي غابة الأسرار التي أحكمت دوائر المخابرات العالمية نسجها، وأتقنت صناعتها لتخريب الثورات وتهميش إرادة الشعوب وتحويل مسارات الانتقال الحضاري الكبير الذي بدأ مع الثورة التونسيّة إلى ركام من الخوف والجوع والقتل، وحتما سيسعى الباحثون في ملفّ التسفير إلى توجيهه وجهة يرتضونها والإبقاء عليه غامضاً وبيتاً مخفيّاً في غابة السياسة، تسكنه الأسرار والأشرار، يخيف به أهل السّاسة وصنّاعها البسطاء من النّاس.
الحديث عن مسألة التسفير، في هذا الوقت بالذات، استدعاء للمناخ السياسي نفسه الذي استفادت منه أحزاب كثيرة، مناهضة للمكوّنات الحزبيّة التي شكّلت تجربة الترويكا منذ 2012، وبدا جليّا أنّ تلك الأحزاب التي جنّدت الإعلام ومؤسسات الدولة في اعتصام باردو، وفي كلّ تحركّات التعطيل والإفشال التي مارستها الإدارة مع منظمات مهنيّة، وأسقطت بها تجربة حكم رائدة في تاريخ تونس والعالم العربي، المسكون بأشباح الاستبداد والفساد.. تلك الأحزاب لم تكن تحمل مشروعاً سياسيّاً حقيقيّاً، ولا تحمل رؤية اقتصاديّة واجتماعيّة، وإنّما كان حضورها السياسي مشروطاً بمناخ الترهيب والتخويف من خصم سياسي (حركة النهضة ومشتقات المؤتمر)، ولذلك حمّلت هذه الأحزاب الفاقدة كلّ رؤية مرحلة الترويكا كلّ مظاهر الفشل الحاليّة، وأغفلت بذلك ضرورة البحث عن بدائل موضوعيّة وحلول واقعيّة تشخّص في عمق أسباب فشل الدولة الوطنيّة الحديثة، منذ الاستقلال إلى حدود الثورة، في بناء نموذج وطني ثقافي واجتماعي وتربوي واقتصادي وسياسي، يضمن الحريّة والكرامة والعدالة والديمقراطيّة.
تتجاوز مسألة التسفير الأزمة السوريّة، من حيث تاريخيّة هذه الظاهرة، أو من حيث التشكّلات الدعائيّة لها، فمشاركة التونسيين في مناطق التوتّر والحروب، تعود إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي، فقد شارك تونسيون في معارك الحربين العالميّتين، وفي معارك المقاومة الفلسطينيّة والجزائريّة والليبيّة، وشارك آخرون في معارك أفغانستان، وشارك تونسيون جنّدهم نظام معمر القذّافي في معارك تشاد، وشارك آخرون في معارك البوسنة والهرسك ثمّ العراق، وهي بذلك ظاهرة وطنيّة تتناسب مع الواقع الدولي والإقليمي ومقاماته وسياقاته ولا تمثّل استثناء تونسيّا، والحديث عن ضرورة محاكمة المتورّطين في ملفّ التسفير إلى سورية يمرّ حتما بمحاكمة المتورّطين في التسفير إلى مناطق التوتر منذ نظام بورقيبة إلى حدود 2017.
المسألة السوريّة معقدّة، من حيث المنطلقات والتحوّلات والمسارات والمآلات، فمنطلقاتها ثوريّة، إذ كانت استجابة شعبيّة لروح الثورات العربيّة التي انطلقت بذرتها الأولى في تونس، والتشكيك في المنطلقات الثوريّة للأحداث في سورية يساوي بالضّرورة التشكيك في كلّ الثورة التونسيّة، بداية ومنجزاً. ولذلك، يحمل الاختلاف في توصيف الأحداث في سورية رؤية إيديولوجيّة، تستند أساساً على المواقف المتناقضة بين فرقاء السياسة في تونس من النّظام السوري.
كانت التعبئة غير نظاميّة، واتخذت شكل التفاعل الوجداني الممزوج بأبعاد دعائيّة مذهبية، وهذا ما تجلّى في مقاطع الفيديو التي تنشر على الإنترنت، أو في خطب بعض الأئمّة المحسوبين على التيّارات السلفية، وهذا ما يفسّر التناقضات والإنكفاءات التي رسمت تعرّجات مسار الثورة السوريّة واختلاف المواقف الدوليّة منها وتباين حجم التورّط العالمي فيها.
وفي ظلّ هذا الاختلاف الحادّ بين فرقاء السياسة في تونس، ظلّت المسألة السوريّة محلّ تجاذب كبير بين الخصوم، وهو تجاذب يعكس استقطاباً عالمياً. ولم تكن مسألة التسفير أبداً نظاميّة في البعدين (مع النّظام أو ضدّه)، وإنّما كانت مسألة "شعبيّة" متّصلة بحجم الاختلاف السياسي والإيديولوجي، فالذين سافروا إلى سورية، لقتال النّظام وجدوا غطاء فقهيّاً، ووجدوا دعماً شعبيّاً من المتعاطفين مع الثورة السوريّة، وكذلك الذين سافروا إلى سورية للقتال إلى جانب النّظام وجدوا غطاء حزبيّاً من الأحزاب القوميّة، ووجدوا تمويلاً في إطار رؤية سياسيّة، لها امتدادات إقليميّة، ترى في ما يحدث في سورية مؤامرة كونيّة على آخر قلاع الممانعة العربيّة. ولذلك تلاشت عناصر الاختلاف العميق والتاريخي بين إيران وحزب الله من ناحية، والتيارات القوميّة من ناحية أخرى، وتشكّل تحالف موضوعي، تغاضى فيه الكلّ عن معالم العداء التاريخي بين القوميين العرب وإيران.
يبدو ملفّ التسفير في تونس، وغيرها من البلدان، معبّراً عن فضاء استخباراتي أشمل من المسألة السورية، ويهدف إلى تخريب الثورات، فالذين أشرفوا على تجنيد الشباب، والدفع به إلى ميادين المعارك في مناطق التوترّ في ليبيا والعراق وسورية لهم تجارب سابقة في الحرب في أفغانستان والعراق، منذ زمن بورقيبة وبن علي، ومن المعلوم عند الدوائر الاستخباراتية العالمية حجم التواطؤ بين نظام بشّار والجماعات الجهاديّة المقاتلة للقوّات الأميركيّة في العراق، قبل موجة الثورات العربيّة. والمعلوم أنّ زعيم تيار أنصار الشريعة، سيف الله بن حسين، المكنّى بأبي عياض، كان ممن قاتل في أفغانستان وسافر للقتال في العراق، كما يظلّ ملف المدعو أبي بكر الحكيم ملفّا غامضا، وكذلك ملف أحمد الرويسي، العقل المخطّط لكلّ العمليات الإرهابيّة في تونس، والذي رفضت حكومة مهدي جمعة تسلّمه بعد القبض عليه في ليبيا. ومن المعلوم أنّ أحمد الرويسي تربّى في دوائر المخابرات السوريّة، وله علاقات برموز من النّظام السابق، ويبدو أنّه كان عنصر اختراق للجماعات السلفيّة زمن نظام بن علي.
ملفّ التسفير في تونس هو الشجرة التي تخفي غابة الأسرار التي أحكمت دوائر المخابرات العالمية نسجها، وأتقنت صناعتها لتخريب الثورات وتهميش إرادة الشعوب وتحويل مسارات الانتقال الحضاري الكبير الذي بدأ مع الثورة التونسيّة إلى ركام من الخوف والجوع والقتل، وحتما سيسعى الباحثون في ملفّ التسفير إلى توجيهه وجهة يرتضونها والإبقاء عليه غامضاً وبيتاً مخفيّاً في غابة السياسة، تسكنه الأسرار والأشرار، يخيف به أهل السّاسة وصنّاعها البسطاء من النّاس.
مقالات أخرى
17 يناير 2019
01 يناير 2019
13 ديسمبر 2018