قامت الإمبراطورية العثمانية على تقنين الحياة المدنية والإجراءات الإدارية في إطار الشريعة الإسلامية، التي أصبح فيها الدين والسلطة على تماس في إدارة أمصار الإمبراطورية. يمسك السلطان بإحدى دفّتي الحكم، ويمسك شيخ الإسلام الدفّة الثانية، مع تمتّع الأخير بدور مركزي في السلطنة.
فيقول فيه عبد القادر آغلو: "هو رئيس المفتيين والمدرسين وأكبر أهل العلم مستوى. كان في البداية يُدعى مفتياً فقط. وكان يحضر المجلس عند تعيين صدر أعظم جديد، ويلبس الفرو ويخرج مع الصدر الأعظم. وكان أوّل من يهنئ الصدر الأعظم الجديد. كانت تُسمى دائرته شيخ الإسلام قابي سي، أو دائرة مشيخت، وكانت الدولة لا تنفّذ أيّ عمل مهمّ قبل فتوى شيخ الإسلام".
سلطة وهيبة طبعتا العلاقة بين السلطان وشيخ الإسلام في إدارات الإمبراطورية العثمانية، ما جعل علاقتهما مريبة، يشوبها الضغط المتبادل. علاقة تشتدّ تأزّماً وتنفرج رهناً بالظروف الموضوعية المحيطة بالبلاط، بينما البلاد تُدار بموجب الشريعة الإسلامية ومعاييرها، وتظلّ تحت وطأة التوازن بين السلطان وشيخ الإسلام. بيد أنّ التوازن لا يسلم من الاختلال، إن كان الأمر متعلّقاً بالقضايا الكبيرة أو الصغيرة.
من خلال التصوير واقتناء أعمال الفنّانين، يتّضح مدى الاضطراب الذي يسود علاقة الفقهاء بسلاطينهم، وإن يكن الأمر المتنازع عليه، يُصنّف في دائرة القضايا الصغرى. ففي مناسبات عديدة لا يأبه السلطان ولا يستأنس بآراء الفقهاء، وفي حالات أخرى يخشى المواجهة مع القوى الدينية في البلاط، يخشى على شرعية السلطنة ومباركتها من شيخ الإمبراطورية.
أما عندما يسبر السلطان غور المعركة مع الفقهاء، تبدو محاولات الانفكاك عن سلطان النصّ الديني واهنة وضعيفة، فما يلبث أن يثور المنافحون عن تحريم التصوير محصّنين بنصوصهم التي أعادوا قراءة التاريخ من منظورها، واستخدموا الوقائع التاريخية لوسم مواقفهم بـ "الإسلامية".
بدت الشريعة الجديدة، على أيدي أصحابها من الفقهاء والأئمة، ممانعة للتصوير ورافضة لاقتناء أعمال المصوّرين. وعندما تبدو الحال مضطربة بين السلطان والشيخ، يتجنّب الأوّل الوقوع في دائرة المحظورات، وتصبح هذه المحظورات ملائمة للطرفين في مثل هذه الحالات، فتخضع علاقة السلطان والشيخ لسنن "المجاملة".
في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار"، يقول الباحث خليل إينالجيك: "عُرف محمد الفاتح، المؤسّس الحقيقي للإمبراطورية العثمانية، كمقاتل جاهد للسيطرة على العالم، إلا أنّه في الوقت نفسه، عُرف بتسامحه وثقافته. فقد طلب من غيناديوس، حين عيّنه بطريركاً على الأرثوذكس، أن يؤلّف رسالة تلخّص مبادئ الدين المسيحي.
أما في بلاطه فكان يستدعي العلماء في أيام معيّنة من الأسبوع لتقديم المشورة له. كما كان يستقبل في بلاطه العلماء والكتّاب اليونان، ودعا فنان البندقية، جنتيل بليني، لرسم بعض اللوحات الجدارية لقصره، وحتى لرسم لوحة تمثّله. وفي هذا الإطار وُجد من يبالغ ويعتبر محمد الثاني أحد حكام عصر النهضة".
يتبيّن لنا طابع العلاقة الضاغطة بين الموقعين، على الرغم من حبّ الفاتح للرسم واقتناء اللوحات، ظلّ فنّ التصوير من محظورات البلاط، في ظلّ سلطة شيخ الإسلام الذي لا يغفل عن المحاسبة والاقتصاص ممن آثروا دنياهم على دينهم.
ويُحكى أن الساخطين في مقاومة السلطان، وبعد أن تحلّقوا حول ابنه الأكبر بايزيد، تمكنوا بعد موت السلطان من إثارة الانكشارية. وعندما اغتيل الصدر الأعظم اتخذت الإجراءات اللازمة ليتولى بايزيد العرش. ونتيجة للضغوط المختلفة بدأ السلطان الجديد عهده بالتخلي عن سياسات أبيه. فقد طالبته غالبية السكان بتطبيق الشريعة من جديد في كلّ مجالات الحياة، واعتبرت السلطان الجديد مناصراً للعدالة والشريعة، فنزعت حينئذ اللوحات الجدارية التي رسمها الفنان بليني وبيعت في الأسواق.
لم تكن عملية منح عنصر ثقافي ما قيمة جديدة في الثقافة الواحدة عملية سهلة، ناهيك عن استحالتها في حالات عديدة، ما جعل التحريم حصناً منيعاً لسلطة رجال الدين لعقود من الزمن. هذا ما حصل عند العثمانيين حين تمّ اكتشاف المطبعة على أيدي الأوروبيين. فكما تأخّر دخول المطبعة إلى الإمبراطورية العثمانية لم يحظَ التصوير بموافقة الشـيخ آنذاك.
يردّ المؤرخ الإنجليزي توماس أرنولد ذلك إلى تجذّر الشعور الديني لدى جمهور المسلمين، وبالطبع الشعور الذي يحمل الموقف التحريمي إزاء التصوير، إذ كان من الصعب جداً أن يُمحى التحريم من أذهانهم. فكتب الفقه تحفل بمواقف رافضة للتصوير، وسادت تلك الكتب لقرون عديدة، كمصدر لمعارف المسلمين في التعامل مع شؤون دنياهم.
تفيدنا الإخباريات التاريخية بالعديد من الحوادث التي جعلت من التصوير عنصراً إشكالياً في تاريخ الإمبراطورية العثمانية. يروي أرنولد حادثة تاريخية بارزة حصلت عندما حاول السلطان محمود الثاني أن يفرض على الشعب التركي آداب وعادات غربية، وكان التصوير واحداً منها، فقام بتعليق صورة له في كلّ المعسكرات، ثارت حفيظة السكان في إسطنبول بتحريض من العلماء، فأعلنوا تمرّدهم على السلطان، وأسفر التمرّد عن أربعة آلاف قتيل، ورُميت أجسادهم في البحر قبل أن يتمّ إخماد ذاك التمرّد.
منذ صدر الإسلام وانتهاء بالحالة العثمانية، يتبيّن أنّ التعقيد ساد العلاقات بين جمهور المسلمين وأئمّتهم، وبين أهل الشريعة والسلاطين، كما بين الجماهير وحكامهم أيضاً.. ولعلّ فنّ التصوير، الذي ابتكره الإنسان لأهداف إبداعية، بيّن من حيث لا يدري محرّموه، حجمَ الإشكالية التي تراوح بين النصّ الديني وشغف سلاطين البلاط، وصوّر العلاقة الضاغطة بين السلاطين العثمانيين الجانحين إلى الفنون والمفتين المتحفظين عليها.
* كاتب من لبنان