التعثر الدائم للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الخلل والآفاق (2-2)
يكمن الخلل في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، المتعثرة دائماً، في الانحياز الأميركي للمواقف الإسرائيلية، على الرغم من أن الإدارات الأميركية المتعاقبة تدرك أنها ضارة بالمصالح والأمن القومي الأميركيين. وكما سبقت الإشارة، جاء أوباما، بعد انتخابه أواخر عام 2008، بخطاب ورؤية جديدين نحو الصراع العربي الإسرائيلي، وحاول الضغط على إسرائيل بقبول دولة فلسطينية، على أساس من حدود عام 1967، باسم المصلحتين، الأميركية والإسرائيلية، غير أن جهوده تلك باءت بالفشل.
وعلى الرغم من أن فشل إدارة أوباما في هذا الملف إلى الآن يعود، بالدرجة الأولى، إلى نفوذ اللوبي الصهيوني وحلفائه في الولايات المتحدة، فإن هذا لا يعني إعفاء هذه الإدارة من العجز الذي تبديه أمام الحكومة الإسرائيلية، كما أنه، من ناحية أولى، لا يعفي الجانب الفلسطيني في استمرار رهانه، والذي لن يتحقق، على موقف أميركي "حاسم" من إسرائيل وسياساتها.
فمثلا، وفي تعبير أميركي واضح عن الاستياء من سياسات حكومة نتنياهو، المعرقلة جهود السلام في المنطقة، وإدراك الإدارة ذلك، أطلق أوباما انتقاداتٍ ضمنية لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي، وذلك في مقابلة مع "لومبرج فيو"، نشرت في الثاني من مارس/ آذار الماضي، أي قبل يوم من استقباله نتنياهو في البيت الأبيض.
في تلك المقابلة، حذر أوباما نتنياهو من أن الوقت يمضي لتحقيق حل الدولتين، وشدد على أنه، ومع مرور كل عام، تغلق بشكل أكبر إمكانية تحقيق اتفاق سلام، يمكن أن يقبله الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي، وذلك، أولاً، بسبب تزايد وتيرة بناء المستوطنات في الضفة الغربية وتوسيعها، وقد تضاعفت، بشكل غير مسبوق، في العامين الماضيين. وثانياً، بسبب التغييرات الديموغرافية، حيث إن أعداد العرب في فلسطين وإسرائيل تتضاعف، لا العكس. وثالثاً، بسبب أن عباس يتقدم بالسن، وهو القائد، حسب أوباما، الأكثر اعتدالاً فلسطينياً، وأثبت أنه معارض للعنف، ومتمسك بالمسار السياسي الدبلوماسي، ولا يمكن التنبؤ بالخط الذي سيتبناه خليفته، لو غاب أبو مازن عن الساحة الآن.
أبعد من ذلك، حذر أوباما، في مقابلته تلك، إسرائيل من العزلة الدولية، بسبب سياساتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وشدد على أنه إذا لم يتحقق السلام، وإذا استمر الاستيطان، وقرر الفلسطينيون أنه لا يمكن لهم الحصول على دولة فلسطينية، متصلة جغرافياً، فإن قدرة الولايات المتحدة في الدفاع عن إسرائيل في المحافل الدولية، وفي مجلس الأمن، ستكون محدودة، وقدرتها على احتواء التداعيات الدولية ستضعف، خصوصاً مع تراجع الدعم الأوروبي لمواقف إسرائيل، بسبب سياساتها، وبسبب غياب أي أفق للحل. وخلص أوباما إلى أن تردد نتنياهو في "اغتنام الفرصة" سيكون "خطأً كبيراً"، سيضعف إمكانية تعزيز وضع إسرائيل كدولة يهودية، تعيش في سلام مع جيرانها ضمن حدود دائمة وآمنة، ومؤكداً أن تغاضي إسرائيل عن طبيعة التحديات التي تواجهها اليوم قد يؤدي إلى زوالها.
وكان كيري قد استبق تصريحات أوباما تلك بتصريحاتٍ مماثلةٍ في مؤتمر ميونيخ للأمن، مطلع فبراير/ شباط الماضي، والتي شدد فيها على أن عرقلة المفاوضات، الجارية حالياً، وعدم التوصل إلى حلٍّ يضمن قيام دولة فلسطينية، قد يعني إضعافاً لعباس وحركة فتح، وتقوية الفصائل المسلحة. وذهب كيري إلى أبعد من ذلك، عندما حذر من أن انهيار المفاوضات الحالية قد يترتب عليه انتهاء "المبادرة العربية"، وقد يهدد الطابع اليهودي للدولة الإسرائيلية، بل وقد يؤسس لدولة ثنائية القومية. ونبه كيري في التصريحات نفسها إلى أن فشل المفاوضات الراهنة سيعزز مواقف ناقدي إسرائيل، الداعين إلى نزع الشرعية عنها، ومقاطعتها. وأكد أن الواقع الراهن، في السياق الفلسطيني الإسرائيلي، لا يمكن أن يبقى على حاله، وأنه غير قابل للاستمرار.
وأثارت تصريحات أوباما وكيري تلك موجة حنق وغضب بين المسؤولين الإسرائيليين عليهما. لكن، ماذا ترتب على هذه التصريحات المحملة ضمنيا المسؤولية لإسرائيل؟
ببساطة، لا شيء.
ففي المؤتمر الصحفي الذي جمع أوباما مع نتنياهو في الثالث من مارس/آذار الماضي، أعاد نتنياهو تأكيد مواقفه السابقة نفسها، من ناحية ضرورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل "دولة يهودية"، فضلا عن ضرورة قبولهم اعتبارات إسرائيل الأمنية التي تحتم ضرورة وجود عسكري إسرائيلي في مناطق، من المفترض أن تكون جزءاً من الدولة الفلسطينية المستقبلية. وبدل التركيز على الملف الفلسطيني، ركز نتنياهو على الملف النووي الإيراني، في تحدٍّ لإدارة أوباما التي ترى ضرورة إعطاء المفاوضات معها فرصة كاملة.
وتمثل التعبير الأكثر وضوحا على فشل ضغوط أوباما وكيري على الجانب الإسرائيلي في تراجع إسرائيل عن الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، على الرغم من الاتفاق على ذلك مسبقاً، شرطاً لانطلاق المفاوضات الراهنة، ورهن ذلك بموافقة الفلسطينيين على تمديد المفاوضات.
الاتجاهات المستقبلية
يصعب الجزم بأن المفاوضات وصلت إلى نقطة الانهيار، على الرغم من التعثر الحقيقي الذي أصابها. فمن ناحية، ما زالت الجهود الأميركية مستمرة، في محاولة لتذليل العقبات التي ترتبت على استمرار رفض إسرائيل الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة ذات سيادة، ومتصلة جغرافياً، على أساس حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، وتكون عاصمتها القدس الشرقية. ويرتبط بذلك، أيضا، رفض إسرائيل وقف أنشطتها الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، بما يعنيه ذلك من قضاءٍ مبرم على أي إمكانية لقيام الدولة الفلسطينية المرتقبة. هذا طبعاً، بالإضافة إلى استمرار تعنت إسرائيل في قضايا جوهرية أخرى، كموضوع اللاجئين والحدود ومسألة الإصرار على اعتراف الفلسطينيين بـ"يهوديتها"...إلخ.
بالتالي، يرى الموقف الفلسطيني، والذي واضحٌ جداً أن الإدارة الأميركية تتبنى كثيراً من خطوطه نظرياً، كما توحي تصريحات أوباما وكيري السابقة، أن من غير المجدي استمرار المفاوضات إلى ما بعد نهاية إبريل/ نيسان الجاري، خصوصا وأن الجانب الأميركي نفسه لم يقدم بعد، بشكل رسمي ومكتوب، تصوره لـ"اتفاق الإطار" المفترض، ويبدو أن ذلك أصبح مستبعداً الآن.
مع ذلك، يوحي رد الجانب الفلسطيني، إلى حد اللحظة، على هذا التعنت الإسرائيلي فيما يتعلق بالشكل النهائي للحل، مضافاً إليه تراجع إسرائيل عن التزامها الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين مقابل عدم توجه الفلسطينيين إلى طلب تعزيز عضويتهم في الأمم المتحدة ومعاهداتها واتفاقيتها ووكالاتها في الأشهر التسعة للمفاوضات، يوحي بأنهم لا يريدون فعلاً الانسحاب من المفاوضات، أقله قبل نهاية المهلة المحددة لها آخر الشهر الجاري.
وتتعلق طلبات الانضمام التي وقعها عباس إلى 15 اتفاقية دولية بالحقوق العامة وحقوق الإنسان ومناهضة التعذيب وجرائم الفصل العنصري ومكافحة الفساد، بالإضافة إلى اتفاقيات جنيف بشأن الحرب والاحتلال. وتعد الخطوة رمزية، ذلك أنه، أولاً، لم يطلب الانضمام إلى هيئات في الأمم المتحدة. وثانياً أنه لم يقدم طلب عضوية إلى محكمة الجنايات الدولية، بما يمكن الفلسطينيين من محاكمة إسرائيل كدولة محتلة. لذلك، يبدو مستبعداً أن يقطع الكونغرس الأميركي، المنحاز مطلقاً لإسرائيل، الخمسمائة مليون دولار التي تقدمها الولايات المتحدة معونةً سنويةً للسلطة الوطنية الفلسطينية، ذلك أن طلبات العضوية التي قدمها عباس لا تندرج تحت بند القانون الذي ينص على قطع المساعدات الأميركية عن السلطة، وأي هيئة أممية تعترف بدولة فلسطين، حسب قانون صدر عام 1990.
على الصعيد الإسرائيلي، على الرغم من أن حكومة نتنياهو هددت بالرد "بخطوات أحادية" عقابية، رداً على ما وصفتها "خطوات أحادية" فلسطينية، إلا أنها هي، أيضاً، وافقت على الانخراط في المساعي الأميركية التي يقودها المبعوث الأميركي للسلام، مارتن إنديك، من القدس، في محاولةٍ لإعادة الطرفين إلى الطاولة، وتذليل العقبات أمام استمرار المفاوضات إلى ما بعد نهاية الشهر.
ويبقى غير واضح ما إذا كان الفلسطينيون سيتنازلون عن الشروط الجديدة التي وضعوها لتمديد أجل المفاوضات، والمتمثلة بإقرار إسرائيلي بأن التفاوض سيجري على أساس حل دولتين على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، ورفع الحصار عن قطاع غزة، والإفراج عن مزيد من المعتقلين الفلسطينيين. فتأسيساً على التجارب السابقة، لا يمكن فعلياً الوثوق بالتشدد الفلسطيني في هذه المرحلة.
يبقى البعد الأميركي في المعادلة الراهنة. فالولايات المتحدة التي عبرت، عبر البيت الأبيض وعلى لسان كيري، عن إحباطها إزاء التصرفات "غير المفيدة" و"الخطوات الأحادية" من الطرفين، قالت إنها ستناقش جدوى استمرار الالتزام الأميركي نحو عملية السلام. وكان لافتاً تحذير كيري المبطن للطرفين من الرباط، في الرابع من إبريل/ نيسان الجاري، أن هناك حداً للجهود الأميركية، إذا لم يكن الطرفان على استعداد للمضي قدما.
ويبدو أن كيري، نفسه، الآن أصبح في عين عاصفة سياسية أميركية. فقد نشرت صحيفة واشنطن بوست، يوم الثالث من الشهر الجاري، تقريراً نقلت فيه عن مسؤولين رفيعين، لم تسمهم، في إدارة أوباما، أن الأخير يرى أن جهود كيري قد تكون دخلت مرحلتها النهائية، وأن ثمة من يرى بين المسؤولين الآخرين أن كيري استثمر أكثر من اللازم في هذا الملف على حساب ملفات أخرى، ضاغطةٍ على السياسة الخارجية الأميركية كالأزمة الأوكرانية الروسية، والتمدد الصيني في "آسيا الهادئ" على حساب حلفاء أميركا هناك القلقين، كاليابان، والمشاكسات الكورية الشمالية، والمفاوضات النووية مع إيران.
وحسب أولئك المسؤولين، ينبغي على كيري أن يتحمل مسؤولية أي فشل في ملف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، ذلك أنه من أصر على التركيز على هذا الملف. وهو أمر ينفيه مسؤولون آخرون، يقولون إن كيري يقوم بهذا الدور، بمباركة ودعم كاملين من أوباما.
على أي حال، الرأي الداعي إلى تخفيض الانخراط الأميركي في هذا الملف حاضرٌ بقوة، في صفوف الإدارة، خصوصاً بعد التعثر الأخير، غير أَن ثمة من يرى، في المقابل، أَن انسحاب إدارة أوباما، الآن، من هذا الملف قد يرسل رسالةً سلبيةً إلى حلفاء أميركا والعالم، بشأن عزيمة إدارة أوباما وزعامة أميركا عالمياً، خصوصاً في ظل حديثٍ متواترٍ عن التراجع الأميركي عالمياً، وفقدانها الهيبة بين خصومها. ويسوق أولئك أمثلةً على ذلك مثل تراجع أوباما عن تهديده، الصيف الماضي، بمهاجمة قوات النظام السوري، رداً على استخدام السلاح الكيماوي ضد أبناء شعبه، وضم روسيا إقليم القرم الأوكراني، متجاهلة كل التحذيرات الأميركية.
خاتمة
قد تمضي هذه المفاوضات، شكلياً أم عملياً، إلى أجلها المحدد أواخر الشهر الجاري، فكلٌّ من الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، لا يريد أن يظهر بمظهر المتسبب بفشلها. كما أن الولايات المتحدة ستبقى تحاول إبقاء عملية التفاوض حية، ولو اسمياً، فثمن انهيارها قد يتسبب بفوضى جديدة في المنطقة، لا تريدها إدارة أوباما المثقلة الآن.
أيضا، قد يتفق الطرفان على تمديد أجل هذه المفاوضات، وقد يمضي اتفاق الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى قدماً، خصوصاً وأن الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، لا يملكان بدائل للتفاوض حالياً. فالطرف الفلسطيني أعلن، غير مرة، عبر رئيس السلطة، محمود عباس، أنه لا بديل للمفاوضات والمقاومة السلمية، ما يعني أن خيار المواجهة مع إسرائيل يبقى مستبعداً، حسب حسابات قادة السلطة اليوم. أيضاً، وعلى الرغم من أن التوجه إلى عضوية كل الهيئات الأممية، وتحديداً محكمة الجنايات الدولية، والتي تتيحها الوضعية القانونية لفلسطين دولةً غير عضو في الأمم المتحدة، قد يكون خياراً واقعياً في المستقبل، إلا أنه يبقى باهظ الثمن للسلطة الفلسطينية، كما لإسرائيل، والتي قد ترد بخطوات عقابية غير مسبوقة.
أيضاً، قد تجد إسرائيل نفسها أمام انتفاضةٍ فلسطينيةٍ ثالثة، متجاوزة قرار السلطة، وقد تجد نفسها عرضةً لضغوط دولية غير مسبوقة عليها. وبالتالي، فإنها، كما السلطة الفلسطينية، قد تختار تمديد التفاوض تحت أي مسمى.
تبقى مسألة أخيرة، هي أنه قد يكون من العبث توقع الكثير من مثل هكذا مفاوضات. فالراعي الأميركي مشغول اليوم بملفات أخرى كثيرة، والانتخابات التشريعية النصفية تقترب أواخر العام. وبعدها، سيصبح أوباما "بطة عرجاء"، حسب القاموس السياسي الأميركي، بما يضعف من قدرة إدارته على القيادة، خصوصاً وأن المرشحين المحتملين لخلافته من الحزبين سيتسابقون، كما جرت العادة، على استرضاء إسرائيل ولوبيها الأميركي وحلفائها المؤثرين في الولايات المتحدة. وحتى ذلك الحين، لا ينبغي توقع الكثير من هذه الإدارة. فإذا كان مبعوثها للسلام، مارتن إنديك، هو أحد أعمدة اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، فأي حل يتوقعه الفلسطينيون؟ وكما عبر أرون ديفيد ميلر، عضو فريق المفاوضات الأميركية للشرق الأوسط في إدارات جورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن، فإن أوباما الذي يرى سياسات إسرائيل، خصوصاً الاستيطانية منها، سبب تعثر أي مفاوضات مع الفلسطينيين، لا يملك الشجاعة ليواجه إسرائيل بذلك، بسبب طبيعة الساحة السياسية الأميركية.
بهذا، تعود الكرة، من جديد، إلى الملعب الفلسطيني الذي ينبغي على قياداته أن تصوغ مشروعاً وطنياً جامعاً، يتوافق فيه الجميع على الحدود الدنيا المقبولة مرحلياً، فضلا عن الإسراع في إنجاز المصالحة الوطنية، على أساس من هذا المشروع التوافقي. فالراعي الأميركي غير قادر على الضغط بشكل فعال على إسرائيل، والجانب الإسرائيلي يريد مفاوضاتٍ أبديةً من دون معنى حقيقي، والعمق العربي مجهض حالياً. وبهذا، لا يبقى إلا العمق الفلسطيني، والذي وإن كان ضحلا الآن من دون عمقه العربي، إلا أنه يبقى أفضل من السياسات الارتجالية للمفاوض الفلسطيني.