06 نوفمبر 2024
التغريبة العربية .. حشود بلا وطن
حتى مطلع الألفية الثانية، شكل الصراع العربي الفلسطيني-الإسرائيلي العنوان الأبرز لأزمة الشرق الأوسط، لما سبّبه من تخليق بؤرة مستدامة لصراع دام وحروب مستمرة، ولكونه سبباً في نكبة الفلسطينيين وتهجيرهم في جرائم الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة. كان "الشتات الفلسطيني" وحده تجلياً لأزمة ضمير العالم العربي والعالم، إلا أن هذا المشهد الذي كان يخص نكبة شعب عزيز لم يكن كافياً، كما يبدو، لتعقيد أزمات المنطقة العربية، فقد أضيف، اليوم، لهذه النكبة، شتات عربي آخذ بالاتساع، بدءاً بشتات العراقيين، بعد سقوط بلدهم مع الاحتلال الأميركي، ودخوله في دورة عنف طائفي، بما يشبه حرباً أهلية.
كان الهدف الأسمى لثورات الربيع العربي، بعد إسقاط الأنظمة وتحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة، إيجاد عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الحاكم والمجتمع، بما يمكّن المجتمع
من عيش حياة كريمة، تضمن له الاستقرار في وطنه، إلا أن تعثر ثورات الربيع العربي، في بعض البلدان العربية، أنتج واقعاً سياسياً واجتماعياً طارداً، نتيجة عدم استكمال هذه الثورات أهدافها، وعرقل تحقيقها قصور الوعي الاجتماعي في مواجهة هذه العقبات والتدخلات الإقليمية التي وجدت في الفراغ السياسي فرصة لتحقيق مصالحها، إما عبر إعاقة هذه الثورات، أو استقطاب الفاعلين السياسيين الجدد. وما لبثت أن تفاقمت الأزمات السياسية والصراعات المسلحة، لتتطور إلى حروب داخلية في بعض البلدان، وتحوّلت هذه البلدان إلى ساحة حرب إقليمية، وتحولت شعوبها من مواطنين في بلدانهم إلى جيوش من النازحين واللاجئين، هرباً من الموت ودورات العنف المتصاعدة.
نجا التونسيون من مصير شعوب اللاجئين والنازحين والمهرّجين التي أصبحت سمة لشعوب الربيع العربية. وعلى الرغم من أنهم يواجهون، من وقت إلى آخر، هجمات المتشددين الدينيين، إلا أن التونسيين يمضون بخطى ثابتة ومتراكمة لاستكمال أهداف ثورتهم، بدءاً من تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي للسلطة، واستمرار حراكهم المجتمعي، لتنفيذ حزمة الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي من شأنها أن تحقق الرفاه والاستقرار للتونسيين. أما في مصر، فلا يبدو، حتى الآن، أن واقع ما بعد الثورة يختلف عن واقع ما قبله، إذ تنزع سيطرة العسكر، بزعامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى تثبيت نظام بوليسي عسكري، دشنه في ملاحقة "الإخوان المسلمين"، واستكمله في الانقلاب على مكتسبات المصريين الذين يعيشون، حاليا، فظاعات إرهاب منظم من النظام العسكري، إلى إرهاب الجماعات المتطرفة التي تنشط في بيئة خصبة كهذه. وفي واقع مصري مفتوح على احتمالات العنف، ووضع اقتصادي متدهور، لا يجد مصريون كثيرون في وطنهم مكاناً آمناً وملائماً للحياة. لذا، تظل فكرة "اللجوء" هرباً من واقع سياسي واقتصادي ضاغط حلماً للمصريين.
لم تكن الثورة في ليبيا خطأً كما يرى بعضهم، وإنما كان خطأ المقدمات واللجوء إلى العنف لتحقيق التغيير. لذا، لم يمض وقت، حتى أكلت ثورة ليبيا أولادها، وقضت على أحلام الليبيين ومستقبلهم، بعد أن أصبحت البلاد ساحة حربٍ لمليشيات مسلحة ونشاط الجماعات الإرهابية، بما فيها تنظيم داعش. لذا، وجد ليبيون كثيرون أنفسهم مضطرين إلى الهرب من مستقبل مجهول، وبلاد أصبحت طاردة، تتقاسمها جماعات الموت المسلحة.
كان الوهم الذي حقنت به النخب السياسية اليمنيين، وتحديداً من أحزاب اللقاء المشترك، أن قبول اليمنيين المبادرة الخليجية التي جاءت بعد ثورة 2011، وحصنت نظام علي عبد الله صالح، من شأنها منع اندلاع حرب داخلية؛ ووفقاً لهذا الوهم، تقبل يمنيون كثيرون أخطاء المرحلة الانتقالية، وتولى عبد ربه منصور هادي السلطة الانتقالية، كاشفاً عن رئيس ضعيف، إذ لم يحقق أي تغيير يُذكر، وإنما انتهج خطى سلفه في إدارة الملفات السياسية، فيما استمر انفلات الوضع الأمني وتدهور الوضع الاقتصادي في طحن اليمنيين. لذا، لم يكن انقلاب جماعة الحوثي، بمساندة قوات صالح، على السلطة الانتقالية، وخوضهم حرباً ضد اليمنيين، إلا تجلياً لاختلال المبادرة والمرحلة الانتقالية. ويبدو أن كل هذه الأزمات لم تشفع لليمنيين لينجوا، إذ سبب انقلاب الحوثيين وصالح وتصاعد مواجهات المدن مع المقاومة المناوئة لهم تدخلا عسكريا من قوات التحالف، بقيادة السعودية، ليصبح اليمن ساحة حرب داخلية، بتدخلات إقليمية، وليعيش اليمنيون، أول مرة في تاريخهم، واقع موت يومي، جرّاء قصف مليشيات الحوثيين وصالح، وكذا غارات "عاصفة الحزم" الجوية، ويتعرضون لوضع إنساني واقتصادي وصحي كارثي حوّل اليمنيين إلى نازحين في جيبوتي والصومال ودول أخرى، أو إلى أرياف مدنهم، خوفاً من الموت.
إذا كان ثمة من عنوان، يختصر معاناة اللجوء، وإذا كان من توصيف دقيق للشتات العربي
الذي يشهد أكبر موجة نزوح في التاريخ المعاصر، فإن واقع السوريين، اليوم، هو أقوى مثال عن الشتات العربي؛ فبعد أربع سنوات من ثورةٍ، تكالبت عليها القوى الإقليمية لإجهاضها، وتحويل سورية إلى بلاد محروقة، ومسرحاً ليس فقط للصراع الإقليمي، وإنما أيضاً مسرحاً لتوسع وسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وسيطرته، وكأن آلة القتل التي أطلقها بشار الأسد لم تكن كافيةً لحصد أرواح السوريين، ليصبحوا أيضاً أهدافاً لداعش. مع كل يوم جديد، تضيق خيارات السوريين في واقع الموت اليومي والحصار والمجاعة الذي يعيشونه، ولم يعد لديهم خيار سوى اللجوء هرباً من مصير محسوم سلفاً، حلاً وحيداً ومحاولة أخيرة يائسة، لإنقاذ حياتهم، وليس بحثاً عن حياة كريمة.
الطفل السوري عيلان، ذو الثلاث سنوات، مات غرقاً في رحلة الفرار الكبير، استطاعت صورته أن تعيد للواجهة أزمة اللاجئين السوريين ومعاناتهم في محطات اللجوء، والذي وصل عددهم إلى ما يقارب أربعة ملايين لاجئ، ونبهت الجميع إلى ضرورة جدولة ضمير العالم المنكفئ على نفسه، وهزّه من أذنيه، ليفتح عينيه على معاناة السوريين والليبيين والمصريين واليمنيين والفلسطينيين والصوماليين، .. إلخ. والتعاطي مع هذه الشعوب الفقيرة، الحالمة، المتعبة، ليس باعتبارها خطراً على سلامة العالم والأمن القومي للدول القوية، وإنما باعتبارها ضحيةً، لم تجد حتى قشة لتنقذ نفسها من الغرق، تماماً مثل ذلك الطفل السوري، مأساتنا العربية الجديدة.
نجا التونسيون من مصير شعوب اللاجئين والنازحين والمهرّجين التي أصبحت سمة لشعوب الربيع العربية. وعلى الرغم من أنهم يواجهون، من وقت إلى آخر، هجمات المتشددين الدينيين، إلا أن التونسيين يمضون بخطى ثابتة ومتراكمة لاستكمال أهداف ثورتهم، بدءاً من تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي للسلطة، واستمرار حراكهم المجتمعي، لتنفيذ حزمة الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي من شأنها أن تحقق الرفاه والاستقرار للتونسيين. أما في مصر، فلا يبدو، حتى الآن، أن واقع ما بعد الثورة يختلف عن واقع ما قبله، إذ تنزع سيطرة العسكر، بزعامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى تثبيت نظام بوليسي عسكري، دشنه في ملاحقة "الإخوان المسلمين"، واستكمله في الانقلاب على مكتسبات المصريين الذين يعيشون، حاليا، فظاعات إرهاب منظم من النظام العسكري، إلى إرهاب الجماعات المتطرفة التي تنشط في بيئة خصبة كهذه. وفي واقع مصري مفتوح على احتمالات العنف، ووضع اقتصادي متدهور، لا يجد مصريون كثيرون في وطنهم مكاناً آمناً وملائماً للحياة. لذا، تظل فكرة "اللجوء" هرباً من واقع سياسي واقتصادي ضاغط حلماً للمصريين.
لم تكن الثورة في ليبيا خطأً كما يرى بعضهم، وإنما كان خطأ المقدمات واللجوء إلى العنف لتحقيق التغيير. لذا، لم يمض وقت، حتى أكلت ثورة ليبيا أولادها، وقضت على أحلام الليبيين ومستقبلهم، بعد أن أصبحت البلاد ساحة حربٍ لمليشيات مسلحة ونشاط الجماعات الإرهابية، بما فيها تنظيم داعش. لذا، وجد ليبيون كثيرون أنفسهم مضطرين إلى الهرب من مستقبل مجهول، وبلاد أصبحت طاردة، تتقاسمها جماعات الموت المسلحة.
كان الوهم الذي حقنت به النخب السياسية اليمنيين، وتحديداً من أحزاب اللقاء المشترك، أن قبول اليمنيين المبادرة الخليجية التي جاءت بعد ثورة 2011، وحصنت نظام علي عبد الله صالح، من شأنها منع اندلاع حرب داخلية؛ ووفقاً لهذا الوهم، تقبل يمنيون كثيرون أخطاء المرحلة الانتقالية، وتولى عبد ربه منصور هادي السلطة الانتقالية، كاشفاً عن رئيس ضعيف، إذ لم يحقق أي تغيير يُذكر، وإنما انتهج خطى سلفه في إدارة الملفات السياسية، فيما استمر انفلات الوضع الأمني وتدهور الوضع الاقتصادي في طحن اليمنيين. لذا، لم يكن انقلاب جماعة الحوثي، بمساندة قوات صالح، على السلطة الانتقالية، وخوضهم حرباً ضد اليمنيين، إلا تجلياً لاختلال المبادرة والمرحلة الانتقالية. ويبدو أن كل هذه الأزمات لم تشفع لليمنيين لينجوا، إذ سبب انقلاب الحوثيين وصالح وتصاعد مواجهات المدن مع المقاومة المناوئة لهم تدخلا عسكريا من قوات التحالف، بقيادة السعودية، ليصبح اليمن ساحة حرب داخلية، بتدخلات إقليمية، وليعيش اليمنيون، أول مرة في تاريخهم، واقع موت يومي، جرّاء قصف مليشيات الحوثيين وصالح، وكذا غارات "عاصفة الحزم" الجوية، ويتعرضون لوضع إنساني واقتصادي وصحي كارثي حوّل اليمنيين إلى نازحين في جيبوتي والصومال ودول أخرى، أو إلى أرياف مدنهم، خوفاً من الموت.
إذا كان ثمة من عنوان، يختصر معاناة اللجوء، وإذا كان من توصيف دقيق للشتات العربي
الطفل السوري عيلان، ذو الثلاث سنوات، مات غرقاً في رحلة الفرار الكبير، استطاعت صورته أن تعيد للواجهة أزمة اللاجئين السوريين ومعاناتهم في محطات اللجوء، والذي وصل عددهم إلى ما يقارب أربعة ملايين لاجئ، ونبهت الجميع إلى ضرورة جدولة ضمير العالم المنكفئ على نفسه، وهزّه من أذنيه، ليفتح عينيه على معاناة السوريين والليبيين والمصريين واليمنيين والفلسطينيين والصوماليين، .. إلخ. والتعاطي مع هذه الشعوب الفقيرة، الحالمة، المتعبة، ليس باعتبارها خطراً على سلامة العالم والأمن القومي للدول القوية، وإنما باعتبارها ضحيةً، لم تجد حتى قشة لتنقذ نفسها من الغرق، تماماً مثل ذلك الطفل السوري، مأساتنا العربية الجديدة.