تكاد الولايات المتحدة الأميركية لا تقرّ بأنّ ثمّة تغيّراً مناخياً في العالم اليوم، في حين أنّ خبراء يرون في الأمر خطراً كبيراً على صعد مختلفة.
حذّرت المفوضة السامية للأمم المتحدة ميشيل باشليه من مخاطر التغيّر المناخي التي لا تطاول البيئة فحسب بل تمثّل كذلك تهديداً لاحترام حقوق الإنسان على مستوى لم يشهده العالم، ربّما، من قبل. وأشارت باشليه في سياق حديث، أدلت به قبيل افتتاح الدورة 42 لمجلس حقوق الإنسان، في التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري، إلى الحروب الأهلية والتصحّر واللجوء ومعاناة السكان الأصليين في الأمازون والحرائق المتعمّدة هناك للاستيلاء على أراضيهم، فضلاً عن ملاحقة الناشطين في مجال البيئة وغير ذلك. وتستعدّ الأمم المتحدة لاستقبال أكثر من اجتماع رفيع المستوى في نيويورك عن التغيّر المناخي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها 74 التي يحضرها قادة العالم في الأسبوع الأخير من الشهر الجاري.
قد يتساءل البعض عن العلاقة ما بين التغيّر المناخي وبين حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، على الرغم من أنّ باحثين في مجالات كثيرة ربطوا في ما بينها. أمّا الإعلام فقد بدأ يولي هذه القضايا والربط بينها اهتماماً أكبر، فقط في الأعوام الأخيرة. وفي حين اتخذت دول العالم خطوات للحدّ من الاحتباس الحراري ومكافحة التلوّث البيئي، من بينها توقيع اتفاق باريس للمناخ، حذّر خبراء كثر من أنّها ليست كافية. يُذكر أنّ الولايات المتحدة الأميركية، بعد تولّي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الحكم، تراجعت عشر خطوات إلى الوراء عندما قرّرت الانسحاب من الاتفاقية التي كانت قد أجرت مفاوضات حولها. وترامب إلى جانب عدد لا بأس من الذين يعملون في محيطه، يشكّكون في وجود تغيّر مناخي، فما بالك بإقرارهم بأنّ تأثيره يطاول حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
في مقابل تعنّت الإدارة الأميركية، تشهد الولايات المتحدة تحرّكاً من قبل ناشطين وسياسيين، خصوصاً في الحزب الديمقراطي وقياداته الشابة، يربطون ما بين التغيّر المناخي والعدالة الاجتماعية في خطّة أطلقوا عليها "العقد الأخضر الجديد". ومن المتوقّع أن تفرض قضيّة التغيّر المناخي نفسها بشكل أوسع على برامج الحزبَين، الديمقراطي والجمهوري، في خلال التنافس في الحملة الانتخابية الرئاسية المقبلة. أمّا الأسباب فتتعدد، من بينها الواقع نفسه، ككثرة الأعاصير والحرائق وعمليات التصحّر التي يشهدها العالم والولايات المتحدة تحديداً، بالإضافة إلى ارتفاع منسوب المياه، الأمر الذي يهدّد بغرق واختفاء أحياء ومدن كاملة. ويشير تقرير صادر أخيراً عن الأمم المتحدة إلى أنّ حالات الطوارئ المناخية التي يشهدها العالم بوتيرة متسارعة أدّت إلى زيادة في مستويات الجوع واللجوء وحالات الوفاة وانتشار الأمراض. كذلك يتوقّع التقرير أن يساهم ارتفاع درجات الحرارة في وفاة 250 ألف شخص إضافي سنوياً بين عامي 2030 و2050 نتيجة انتشار أمراض مثل الملاريا والإسهال إلى جانب سوء التغذية والإجهاد الحراري وغيرها. أمّا الشرائح الأكثر تضرراً فهي من الفقراء والأقليات والسكان الأصليين.
في سياق متصل، أقامت قناة "سي إن إن" الأميركية مناظرة لمناقشة موضوع المناخ وقضاياه بين المرشّحين العشرة الذين ما زالوا يتنافسون على رئاسة الحزب الديمقراطي لمواجهة ترامب في الانتخابات المقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2020. فأجمع كل المتنافسين، باستثناء نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، على ضرورة العمل من ضمن إطار ما بات يُعرف بـ "العدالة البيئية". ويقصد بهذا الإطار تبنّي سياسات بيئية نظيفة تحدّ من تفاقم التغيّر المناخي والاحتباس الحراري وغير ذلك، وتعالج التباينات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يعانيها الفقراء والأقليات، علماً أنّها ناجمة في الغالب عن سياسات وعقود من العنصرية أدّت إلى تركيز وعيش الفقراء والأقليات والسكان الأصليين في المناطق الأكثر تلوّثاً. وهؤلاء هم الأكثر تأثراً بالتغيّر المناخي الآخذ بالتفاقم، فضلاً عن أنّ الموارد المخصصة لتلك المناطق قليلة، ما يعني أنّ إمكانات تأقلمهم ومحاربة تبعات التغيّر المناخي والتلوّث صارت أصعب. كذلك، فإنّ البنية التحتية ونوعية البناء تجعلان إمكانات صمود الفقراء في الولايات المتحدة أمام الأعاصير والفيضانات أصعب. في المقابل، فإنّ الأغنياء أو أبناء الطبقات المتوسطة يشيّدون مباني تكلفتها أعلى قد تصمد بشكل أفضل أمام الكوارث الطبيعية، خصوصاً في حال تعرّضت مناطقهم إلى مثل تلك الكوارث. وقد أظهرت تجارب سابقة أنّ المساعدات المالية الفدرالية أو حتى الانتباه الإعلامي واستمرار التغطية بعد الأعاصير والحرائق، تأتي في معظم الأحيان أقلّ إذا كان المتضررون من الأقليات والفقراء. لكنّ تبعات التلوّث البيئي على المناطق الفقيرة لا تقتصر على الكوارث الطبيعية كالحرائق أو الأعاصير مثلاً، بل تؤثّر على صحة الناس في تلك المناطق حيث يُسجَّل تلوّث المياه الصالحة للشرب في بعضها، كما هي الحال في فلينت في ميشيغان، أو التلوّث البيئي، بما في ذلك الأنهار، الأمر الذي يجعل سكان تلك المناطق أكثر عرضة للإصابة بأمراض من قبيل الربو. وما يزيد الطين بلّة أنّ ملايين الأميركيين هم من دون تأمين صحي لأنّهم غير قادرين على سدّ تكلفته، على الرغم من أنّهم في أشدّ الحاجة إليه، خصوصاً إذا كانوا يعيشون في مناطق ملوّثة.
وفي مقابل تعنّت الإدارة الأميركية، اتّخذت مدن وولايات مهمّة مثل كاليفورنيا ونيويورك خطوات لمحاربة التغيّر المناخي. ولا يمكن الاستهانة بعمل تلك الولايات، إذ إنّ النظام الفدرالي يسمح للولايات بالاستقلالية إلى حدّ كبير، كذلك فإن اقتصاد ولايات كولاية كاليفورنيا يعادل اقتصاد دول أوروبية. ويرجّح خبراء أنّ يضطر الحزب الجمهوري عاجلاً أم آجلاً إلى مواجهة الواقع والتعامل مع التغيّر المناخي وتبعاته التي يفرضها. لكنّ الأسئلة التي يطرحها هؤلاء الذين يتحدثون عن "العدالة البيئية" تتعلق بالمشاريع كالطاقة النظيفة والوظائف التي سوف توفّرها، وما إذا كانت سوف تُنفَّذ في المناطق الفقيرة وتلك التي تسكنها الأقليات والأكثر تضرراً من التلوّث البيئي أم أنّ المستفيدين منها سوف يكونون هؤلاء الذين يسكنون في مناطق الطبقة المتوسطة وتلك الغنية. ولأنّ ذلك يتعلق بالاقتصاد ولأنّ محاربة التغيّر المناخي والتلوّث تشير إلى استثمارات بمليارات الدولارات، فإنّ الطرح الذي يؤكّد ضرورة الربط ما بين محاربة التغيّر البيئي والعدالة الاجتماعية هو ربط جوهري للنهوض بالمجتمعات والاقتراب خطوة من تحقيق العدالة الاجتماعية.
على الرغم من الصورة القاتمة فإنّ الأمل ليس مفقوداً، وثمّة خطوات اتّخذت لمكافحة تحديات التغيّر المناخي. وقد صدر أخيراً تقرير عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) حول السلع والتنمية، يشير إلى فرص أمام البلدان النامية وسواها لخلق وظائف جديدة وتطوير البنى التحتية في المناطق الفقيرة، لكنّه يتوجّب على الدول استثمارها بشكل حكيم.