ونظراً لأنه تمّت إقالة جنينة وهو في منزله، ولم يمكن له أن يحصل على صور ضوئية من التقارير التي وضعها، فإنه عجز عن تقديم صور عن هذه التقارير التي تدين الجهازين، طالباً مخاطبة الرئيس الجديد للجهاز المركزي للمحاسبات هشام بدوي، لعرض هذه المستندات، إلا أن النيابة لم تستجب لهذا الطلب وأحالته للمحاكمة التي عقدت جلستها الأولى يوم الثلاثاء الماضي.
وتنشر "العربي الجديد" للمرة الأولى أجزاء كاملة من التقرير الذي فجّر الأزمة، ويحاكم بسببه جنينة الآن، والذي جاء في محصلته أن تكلفة الفساد في مصر تجاوزت 600 مليار جنيه (68 مليار دولار) خلال السنوات الأربع من العام 2012 إلى العام 2015. وهو تقرير تُحظّر النيابة العامة نشره في وسائل الإعلام المصرية، كما تم إتلاف جميع النسخ المأخوذة منه في الجهاز المركزي للمحاسبات، عقب إقالة جنينة مباشرة.
وتكشف هذه الأجزاء أن التقرير المحاسبي الصادر في خريف العام الماضي، والذي أرادت السلطات المصرية إخفاءه، يشمل اتهامات صريحة لعدد من الأجهزة التي توصف بـ"السيادية" بإهدار المال العام، بما في ذلك الأجهزة الأساسية الضالعة بالدائرة الاستخباراتية ـ الرقابية، التي شكّلها رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي، لإدارة المشهد السياسي بالبلاد، ويديرها مساعده عباس كامل، بالإضافة إلى اتهامات أخرى للأجهزة الحكومية بـ"محاباة مستثمرين عرب".
وضمن المخالفات التي رصدها الجهاز لأراضي الحزام الأخضر والإشغالات الواقعة على أراضي حرم مدينة 6 أكتوبر، والتي ترتب عليها هدر بقيمة 121 مليار جنيه (13.7 مليار دولار)، برزت واقعتا فساد لصالح هيئة الرقابة الإدارية وجهاز الاستخبارات العامة، ممثلاً في شركة "وادي النيل الزراعية"، وهي إحدى الشركات التابعة للجهاز وتستثمر أموال ومخصصات الجهاز بها.
وتسببت واقعة الفساد في أرض الرقابة الإدارية في إهدار 20 مليار جنيه (2.3 مليار دولار)، حين اشترى أعضاء بهيئة الرقابة الإدارية من شركة "6 أكتوبر الزراعية"، ومن جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة مساحة 3472.5 فدانا بحرم مدينة أكتوبر، وذلك على الرغم من أن هذه المساحات تدار بواسطة هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بوزارة الإسكان منذ العام 1980، وذلك لوقوعها ضمن مساحة 5 كيلومترات من كردون (نطاق) مدينة أكتوبر. أي أن من لا يملك (الجيش وشركة 6 أكتوبر، التي يساهم فيها عدد من رجال الأعمال المقربين من نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك)، باع الأرض لمن لا يستحق (أعضاء هيئة الرقابة الإدارية)، وبالتالي لم يدخل خزينة الدولة مليم واحد مقابل شراء هذه الأرض.
ويفيد التقرير بأن أعضاء الرقابة الإدارية لم يسددوا أي مبالغ لهيئة المجتمعات العمرانية رغم تنبيههم لذلك، ويضيف التقرير بأن رئيس جهاز مدينة 6 أكتوبر طلب في 18 يناير/كانون الثاني 2013، استصدار قرار جمهوري بضمّ هذه المساحة إلى كردون المدينة، وتقنين وضعها كأراضي بناء، وجبر الأضرار التي لحقت بالمال العام، إلاّ أن هذا القرار لم يصدر حتى الآن.
أما شركة "وادي النيل الزراعية" التابعة لجهاز الاستخبارات فقد تسببت في إهدار 19 مليار جنيه (2.2 مليار دولار)، واستخدم مسؤولو هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة الوساطة والمحسوبية، وفقاً لما يرد في التقرير، ومنحوا الشركة استثناءات دون غيرها من العملاء، وحصّنوا القرارات الصادرة لها من مجلس إدارة الهيئة، بمنحها مهلة لتنفيذ مشروعاتها، بدلاً من فسخ التعاقد معها وإلغاء التخصيص الصادر لها، وذلك في مخالفة واضحة للمادة 41 من قانون هيئة المجتمعات.
وذكر التقرير بأنه "على الرغم من صراحة نصّ القانون على أن قرارات مجلس إدارة الهيئة تكون نهائية ونافذة فور صدورها، إلاّ أن مجلس إدارة الهيئة عدل قراره الصادر بالجلسة الرقم 64 في 21 أكتوبر/تشرين الأول 2012، وذلك في الجلسة 66 في 11 يناير 2013، عبر تطبيق المهلة لكافة الأراضي الفضاء (الأراضي الخالية) التي لم تصدر القرارات الوزارية باعتماد تخطيطها وتقسيمها، مما أضر بالمال العام، فضلاً عن عدم عرض التعديل على مجلس الوزراء لإقراره وفق القانون".
كما أن هيئة المجتمعات لم تتخذ الإجراءات الكفيلة بفسخ التعاقد وسحب الأرض من شركة "وادي النيل الزراعية" على الرغم من انتهاء المهلة منذ شهر أكتوبر 2013 بالنسبة للأغراض الزراعية، وأكتوبر 2014 بالنسبة للأغراض العمرانية.
وهنا فجّر التقرير مفاجأة أخرى، عبر الكشف عن تورّط رئيس الوزراء الأسبق، مساعد السيسي الحالي لشؤون المشروعات إبراهيم محلب، في مخالفة قانونية تستوجب المساءلة فيما يتعلق بهذه الأرض تحديداً. وكان محلب قد وافق إبان توليه حقيبة الإسكان عقب الانقلاب العسكري في 3 يوليو/تموز 2013، على منح الشركة التابعة للاستخبارات تراخيص المباني في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، مقابل سداد 10 ملايين جنيه فقط (1.2 مليون دولار)، بحجة الانتظار حتى الانتهاء من إعادة التوازن المالي للعقود، مما أضرّ بالمال العام بنحو مليار جنيه (113 مليون دولار)، تمثل قيمة التوازن المالي وفقاً للقواعد المعتمدة من رئيس قطاع التخطيط والمشروعات بهيئة المجتمعات. وذلك على الرغم من عدم سداد قيمة محاور الطرق البالغة 23 مليون جنيه (2.6 مليون دولار).
كما أن الشركة باعت من الباطن ومن دون سند قانوني مساحات من الأرض المخصصة لها، إلى شركة "الكويت وادي النيل" ومجموعة "عامر غروب" في مخالفة للوائح والتعاقد الموقع سلفاً مع هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة. ولم تحدد احتياجاتها من المرافق بدقة، ولم توافِ الهيئة بالرسومات التنفيذية لشبكات المرافق الداخلية للاعتماد، وماطلت في سداد مستحقات الدولة مقابل محاور الطرق وعلاوات تعديل النشاط من زراعي إلى عمراني.
واتهم التقرير هيئة المجتمعات العمرانية بالتواطؤ مع عدد من أعضاء الهيئات القضائية وضباط الشرطة بقطاعي أمن الدولة بالقاهرة والجيزة، عبر تخصيص مساحات من الأراضي لهم في مخالفة للشروط القانونية، وعدم اتخاذ أي إجراءات لتحصيل حقوق الدولة من مخالفاتهم، مما أهدر ما مجموعة 6 مليارات جنيه أخرى (676 مليون دولار).
ومن الوقائع الصارخة أيضاً، ما رصده التقرير من تعدّي المجموعة المصرية للإعلاميين الشبان وأسرهم ويمثلها الإعلامي توفيق عكاشة (الذي كان مقرّباً من بعض الأجهزة الأمنية قبل أن يصطدم بعباس كامل شخصياً وتغلق محطته التلفزيونية ويُطرد من البرلمان)، وشركة "زرقانة مصر للرعاية والتنمية" وتمثلها هدى زرقانة، على مساحة إجمالية قدرها 4554 فدانا، بواقع 3950 فدان لعكاشة و604 أفدنة لزرقانة بالكردون الغربي الجديد بمدينة أكتوبر. وترتب على ذلك إضرار بالمال العام بقيمة 30 مليار جنيه (3.4 مليارات دولار)، تتمثل في سعر المتر المماثل وهو 1350 جنيها (152 دولارا) مضروباً في المساحة بالإضافة إلى تكلفة المرافق.
وذكر التقرير أيضاً أن تخصيص أرض المركز التجاري الضخم (مول العرب) لصالح مستثمر خليجي، ترتب عليه إهدار 5 مليارات جنيه (564 مليون دولار)، تتمثل في عدم فسخ العقد وسحب الأرض لعدم التزام المستثمر بالبرنامج الزمني التنفيذي، واستخدام الأرض في غير الغرض المخصص لها، وعدم سداد قسطين متتاليين عام 2011 في مخالفة للبند الرابع من العقد.
كما أن الدولة باعت الأرض للمستثمر بسعر 1302 جنيه (146.7 دولارا) للمتر، رغم أن سعر المتر المماثل في المكان والنشاط ذاته، بلغ 1900 جنيه (214 دولارا) عام 2008، كما منحت الدولة المستثمر ميّسرة مقررة فقط للعملاء المتعثرين عامي 2009 و2010 من دون وجه حق.
وحتى بعد الإنشاء، فإن المستثمر قام بتأجير المحلات بالمول التجاري والهايبر ماركت، من دون الحصول على موافقة مسبقة من هيئة المجتمعات العمرانية بالمخالفة لنص كراسة الشروط. كما أن المول بدأ العمل بطاقة 475 محلاً بخلاف الهايبر ماركت قبل استصدار تراخيص التشغيل، مما أهدر على الدولة رسوم التراخيص ومستحقات مصلحة الضرائب غير المقدرة حتى الآن.
واللافت أن اللجنة التي صاغت هذا التقرير من قيادات الجهاز المركزي للمحاسبات، كانت حريصة على تذكير المسؤولين الذين سيُرسل إليهم التقرير بالشكاوى والبلاغات التفصيلية، التي أرسلها جنينة إلى مسؤولين كبار بالدولة بهذه المخالفات، وعلى رأسهم السيسي شخصياً، الذي أحيط علماً بوقائع إهدار المال العام في الأراضي المخصصة للقضاة وضباط أمن الدولة وشركة "وادي النيل الزراعية" والرقابة الإدارية في شهر يوليو/تموز 2014، أي بعد شهر واحد من توليه رئاسة الجمهورية. ومما تضمنه تقرير جنينة أيضاً، إثارة شكوك عديدة حول نزاهة تصرفات إدارة القطاع المصرفي الحكومي إزاء مجموعة محدودة من العملاء لم يذكر التقرير أسماءهم.
فمن واقع القوائم المالية للمصرفين التجاريين العامين في مصر (البنك الأهلي المصري، وبنك مصر، بعد بيع بنك الإسكندرية إلى بنك إنتيسا ساو باولو الإيطالي، وبيع بنك القاهرة إلى بنك مصر)، تبين أن هناك 48 عميلاً فقط على مستوى الجمهورية حصلوا وحدهم على نسبة 45.4 في المائة من حجم القروض والائتمان، الذي منحه المصرفان حتى 30 يونيو/حزيران 2004 بواقع 187 مليار جنيه (21.1 مليار دولار)، بالإضافة إلى التزامات عرضية غير مغطاة من الاعتمادات المستندية، تبلغ 36 مليار جنيه (4.1 مليارات دولار).
وكشف التقرير أيضاً أن 24 عميلاً فقط من عملاء البنك الأهلي حصلوا وحدهم على 39.3 في المائة من محفظة القروض وبلغت مديونياتهم 48.776 مليار جنيه (5.5 مليارات دولار)، وأن 24 عميلاً فقط من عملاء بنك مصر حصلوا وحدهم على 57 في المائة من محفظة القروض بواقع 35.96 مليار جنيه (4.1 مليارات دولار).
وخلال الفترة بين عامي 2011 و2014 قرر المصرفان الإعدام النهائي والمؤقت (بالاستبعاد من الدفاتر) لمديونياتهم غير المنتظمة، بلغت جملتها 76.176 مليار جنيه (8.6 مليارات دولار) بهدف إصلاح هيكل القروض، بواقع 58.779 مليار جنيه (6.7 مليارات دولار) للبنك الأهلي، و17.397 مليار (2 مليار دولار) لبنك مصر. وتبيّن وجود بعض المديونيات لم يتم اتخاذ أي إجراءات من المصرفين حيالها، وعدم وجود ضمانات أو ضعف الضمانات المقابلة للتسهيلات الممنوحة لبعض العملاء، وتعثر بعض العملاء بعد منحهم التسهيلات بفترة وجيزة.
وذكر التقرير أن الأصول التي آلت ملكيتها للمصرفين كجزء من سداد مديونيات شركات قطاع الأعمال العام في التسعينيات، قد تعرضت لتعديات كثيفة من الغير بقيمة 1.262 مليار جنيه (143 مليون دولار)، مما فاقم خسائر القطاع المصرفي عموماً. وعلى الرغم من هذه الخسائر فإن التقرير رصد توسع المصرفين في تعيين عاملين بعقود عمل محددة المدة، تحت مسمى "الخبراء والمستشارين الفنيين" بمكافآت شاملة، تفوق بكثير الأجور المحددة بلائحة العاملين بالبنوك الرسمية.
وعن الذي أغضب الدولة، يقول مصدر رقابي رفيع المستوى بالجهاز المركزي للمحاسبات، لـ"العربي الجديد"، إن "هذا التقرير الذي أشرف جنينة على إعداده بشأن تكلفة الفساد في مصر، كان القشة التي أنهت علاقته بالسيسي"، مشيراً إلى أن "جنينة تلقى تحذيرات بين شهري يوليو ونوفمبر من العام الماضي، بضرورة الصمت وعدم الحديث في وسائل الإعلام عن مخالفات أجهزة الدولة الرفيعة، وبصفة خاصة القضاء والشرطة وغيرها مما لم يكن يفصح عنه".
ويضيف أن "السيسي غضب شخصياً من جنينة وأعطى الضوء الأخضر للماكينة الإعلامية للتنكيل به واستغلال تصريحاته بشأن حجم الفساد في إشعال فتيل القضية، بسبب إهمال جنينة للتحذيرات السابقة، وبسبب حديثه العلني أكثر من مرة عن أنه يرسل بلاغات وشكاوى بالوقائع التي يكتشفها إلى السيسي، مما جعل السيسي يبدو متستراً على الفساد".
ويرى المصدر أيضاً أن "من العوامل التي أدت إلى سرعة انهيار العلاقة بين الطرفين، إلى جانب قوة وتأثير وزير العدل آنذاك أحمد الزند والمعروف بعداوته الشديدة مع جنينة، أن السيسي قرر إسناد الملف الرقابي بالكامل لهيئة الرقابة الإدارية، باعتبارها فاعلاً أساسياً في دائرته الشخصية الحاكمة، ولعدم ثقته كثيراً بجنينة كأحد قضاة تيار الاستقلال. وترتب على ذلك ظهور بعض الحساسيات بين قيادات الرقابة الإدارية من جهة، وجنينة من جهة أخرى، لسابقة إرساله تقارير بمخالفاتهم إلى السيسي". ويتبيّن من ذلك أن "انهيار العلاقة بين السيسي وجنينة كانت مسألة وقت، لكن إفصاح جنينة عن نتيجة هذا التقرير عجّل بالنهاية، وأن أجهزة معينة في الدولة كانت تخشى خروجه للنور" كما يختتم المصدر تصريحاته.