التكفيرية الإرهابية والغرب

02 ابريل 2015

مشاركان في تظاهرة في باريس ضد الإسلاموفوبيا (11فبراير/2015/Getty)

+ الخط -

الدلائل التي تؤكد أن رُهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) والتكفيريةَ الإرهابية، المسماة خطأ الجهادية الإسلامية، يمثلان وجهي العملة الواحدة كثيرة. هذه تشترط تلك، وتسوّغ وجودها. وكنت قد بيّنتُ، في مقالة سابقة، كيف أن رُهاب الإسلام هو نتاج أصوليةٍ، تجذّرت في المجتمعات الغربية، وتمثل الحاضنة الثقافية والسياسية لانتشاره. فمنذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، غدا موضوع الإسلام ومكانته في العالم المعاصر مطروحاً في الأوساط الأوروبية النافذة. واحتل (الإرهاب الإسلامي)، منذئذ، قلب النقاشات التي تشغل الصالونات وصانعي القرار والرأي العام. فلم تتوقف المطابع عن توليم القرّاء بـ"معارف" عن الإسلام والديمقراطية، أي عن عدم قابلية الإسلام على التكيّف والاندماج في الحضارة الحديثة. أما المقصود بالإسلام، فليس الدين الإسلامي من حيث هو كذلك، بطبيعة الحال، بل هؤلاء العرب والأفارقة المسلمين الذين يملأون الضواحي والأحياء الفقيرة بمشكلات بؤسهم، وبمطالبهم بأن يُعاملوا على قدم المساواة مع باقي فئات المجتمع الأخرى.


في الأصل كان المهاجر

الواقع أن الأمور التبست، لأن حضور العربي والمسلم صار، منذ الثمانينيات، ملموساً، صار مرئياً، بعد أن ظل طويلاً موجوداً "هناك"، وراء البحار وفي المستعمرات والملحقات وما شابه. كانت مهمة "التحضير" التي أرادها جيل الروّاد من حكام الإمبراطورية الاستعمارية تُنجز بعيداً عن الأنظار، ولم يكن "التحضير"، ولا موضوعه، بالتالي، مَرْئِييْن "هنا". انتهت رسالة "التحضير"، بمعناها الاستعماري، الذي صار غابراً. فقد توقف الاحتكاك "التحضيري" الذي استمر طويلاً في المستعمرات، أي في بلاد المسلمين من عرب وأفارقة. صار يحدث في مراكز الحضارة نفسها، في مدن الغرب الكبرى، أو بالأصح، على أطراف هذه المدن، وفي ضواحيها العصية على التنميط.

قلت التبست، لأن المهاجرين الأُوَل استُقدموا زرافاتٍ، في ستينيات القرن الماضي، لتشغيل الماكينة الاقتصادية التي ينبغي ألا تتوقف. وكان يُنتظر منهم العودة إلى حيث أتوا. أما، وأنهم بقوا حتى بعد أن أُغلقت المصانع والمناجم التي أُحضِروا لتشغيلها، فقد تحولوا إلى مشكلةٍ لا مفر من التعامل معها، تتصل أساساً بهُوّيتهم. وعلى غرار الهجرات السابقة، وهي أوروبية غالباً، كان الاندماج هو الخيار أو الحل الوحيد الذي طُلب من المهاجر أن ينجزه. والاندماج يعني الذوبان بحسب النموذج المطروح، والذي كان يُقدّم على أنه أفضل النماذج الممكنة (أي بخلاف الإنجليزي والألماني، كما كان مختصو فرنسا يرددون بحماسةٍ، قبل أن يبدأوا، أخيراً، بالميل إلى القول بالحاجة إلى تعديله). كان المسلم المندمج هو المسلم الذي ذاب في المجتمع، وتخلى طواعية عن هويته وثقافته، وفي حالات عديدة عن اسمه أيضاً.

والواقع أنّ مَنْ شكّل المشكلة هم أبناء هؤلاء المهاجرين. قليل منهم وجد مكاناً تحت الشمس، وتمكن من شق طريق خاص به. أما جلّهم فقد تكدّس في ضواحي البؤس، ومعضلاتها التي لا حاجة للتفصيل فيها هنا. هكذا صار المُهاجر مستوطنَ الضواحي، وفي الوقت نفسه، موضوعَ اللغط. صار مرئياً، ولم يعد غُفْلاً كأبيه، أو كجيل أبيه. إنه فرنسي، لكنه، مع ذلك، ليس فرنسياً "تماماً". وهو موضوع رُهاب الإسلام، أو الإسلاموفوبيا. ومن صفوفه، خرج "الإرهابيون" الذين استهدفوا "شارلي إيبدو" وأقرانهم. لا بد من ملاحظة أن منفذي العمليات الإرهابية، أخيراً، في باريس أو في كوبنهاغن، ولدوا جميعهم في بلاد الهجرة، ويحملون الجنسية الفرنسية أو الدانمركية، ولا يحسنون العربية، أو بالكاد يُلمّون بها، وتحولوا، في السجن، إلى النسخة الأخيرة التي عُرفوا بها: قتلة إرهابيون.


موقعُ المُهاجر

"هل يستطيع المسلمون أن يندمجوا فعلاً في مجتمع غير إسلامي؟" هذا هو السؤال، المضمر أحياناً، والمعلن غالباً الذي هيمن على البحث الأكاديمي في أوساط العلوم الاجتماعية. أبحاث كثيرة أنجزت بهذا الخصوص. عديد منها تثير موضوعيته الإعجاب والتقدير الكبيرين. لكن أكثرها يكرر المعزوفة إياها: تعذّر الاندماج، لأسباب ثقافية وخصوصاً دينية، أي أصولية (جوهرانية). هكذا، توقف الإسلام عن أن يكون قضية يبحث فيها متخصصون في دين المسلمين وثقافاتهم. دخل الإسلام السجال، هذه المرة، بصفته مشكلة داخلية. مشكلة تتطلب المعالجة من السلطات، خصوصاً الأمنية منها. ووفَدَ إلى ميدان الإنتاج الثقافي جيل جديد من المستشرقين الشبان الذين يقدمون معارف "تحت الطلب"، وتجيب على أسئلة ساخنة، مثل الدمج والأمن والإرهاب والدين. فهل يستطيع المسلم أن يكون ديمقراطياً حقاًّ؟ وهل يستطيع المسلم أن يكون فرنسياً فعلاً، أي أن يرفض الإرهاب الذي يرتكبه مسلمون باسم الإسلام؟ وهل يمكن للمسلم المعاصر، اليوم، أن يكون مسلماً من دون أن يوافق على الجرائم المرتكبة في العالم باسم الإسلام؟ باسم الإسلام تقطع الأيدي وترجم الزانيات، وتخاض "الحروب المقدسة"، وتُنتَهكُ حقوق الإنسان، فهل توافق أنت عليها، أيها المسلم المعاصر؟

ما تبطنه هذه الأسئلة من إجابات ممكنة عبّدت طريق لَبْسٍ ما انفك يتجذّر، ويحفر عميقاً في النفوس والأذهان، من ناحية. ويشرح كيف أن الأسئلة والإجابات عليها محكومة دائماً بالسياق الاجتماعي والثقافي الذي حثّ عليها، من ناحية ثانية. فلسنا وحدنا الذين جنحنا، وما زلنا نجنح نحو الأصولية. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي، أي منذ نهاية ما أسماه جان فرانسوا ليوتارد (نهاية السرديات الكبرى)، وأسماه آخرون (نهاية الإيديولوجيات) أو انهيارها، بدأت الأصوليات تطل برأسها في حياتنا، وتتسلل، خصوصاً، إلى مرجعياتنا الثقافية والرمزية؛ وأخذت بوصلة الجماعات تؤشر نحو المحافظة والقيم التقليدية التي كانت قد دُفعتْ إلى خلف الصورة، وظُنّ أنها في طريق النهاية. وربما شكلت ثورات الشباب في 1968 والحركات المناهضة للحرب في فيتنام، وغيرها من الحركات ذات المقال التمردي، آخر المنعطفات التي سبقت مسيرة التحلل والخَواء التي وصلنا إليها اليوم؟ هل كانت هي فاتحة الأرض اليباب؟ أكتفي بالسؤال.

مهما يكن الأمر، تكفي نظرة واحدة إلى ما يُقال بخصوص ما يدور حولنا، لنرى مقدار الارتباك الذي نعاني اليوم. فباستثناء مختصي المواقع الدعاوية التي تفبرك الـ"حقيقة" التي تشاء، وتروِّج ما تشاء من الأساطير، لا مهرب من الاعتراف بأننا ما عدنا قادرين على الرؤية، وبأن أعيننا فقدت، منذ عقود، قدرتها على رؤية ما كان يبدو واضحاً، ويملأ الأفئدة والمناخ العام. أليس الذين ما زالوا يكتبون بلغة الواثق من معارفه واستنتاجاته صاروا إلى لغة الهذر أقرب وأشبه.

قد يفسر ما سبق ذكره الطلب الكثيف على المستشرق برنارد لويس، وكتاباته، بحثاً عن "الحل" لمعضلة الغرب إزاء الإسلام. ونحن نعرف أن برنارد لويس (شيخ المحافظين الجدد وأول القائلين بنظرية صراع الحضارات، ولعب دوراً استشارياً في غزو العراق وإدارة احتلاله). ما توقف منذ أكثر من ستين سنة عن التنديد بـ"سوء فهم الغرب للشرق"، وعن القول إن سوء الفهم هذا ناجم عن أن مصطلحات مثل الديمقراطية والاشتراكية والعلمانية والدولة، وغيرها، لا تعني في الشرق المعاني نفسها التي لها في الغرب؛ وعن أن لهذا الفارق في المعاني نتائج عملية كبيرة، بخصوص التعامل مع الشرق، أي بالاستراتيجيات التي يجب تبنيها بخصوصه. إن النظر إلى الشرق والشرقيين بعيون أخرى يفيد في إنقاذ الغرب من المفاجآت الكبيرة التي تصيبه إزاء مفاصل التاريخ في الشرق، أولاً. وتوفر له إمكانية أن يتبنى استراتيجيات ناجعة، من حيث النتائج والفعالية، ثانياً. وتوفر له إمكانية التعامل مع المهاجرين، وصعوبات اندماجهم ودمجهم في مجتمعاته، ثالثاً.


جذور التكفيرية الإسلامية

في الطرف الثاني من الصورة، تبدو التكفيرية "الإسلامية" كما لو كانت الوجه الذي تعكسه مرآة الإسلاموفوبيا، وفي داخله تتحدد ملامحها. لم يتوقف الفقهاء والأئمة والمفكرون عن التأكيد على أن الإسلام دين محبة وسلام، وأنه يحرّم القتل وينبذ الإرهاب، ويحض على التسامح. غير أن التزايد المضطرد في أعداد المتطرفين، والتوسع المتنامي للتطرف، يحثان على البحث عن أصول ظاهرة التطرف خارج النصوص، أي في السياق الكلي الذي أنتجها: السياق الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي ولدت في رحمه الأصولية الجوهرانية في الغرب، كما في الشرق.

وإذا صح القول إن الجذور العميقة للتطرف الديني ليست دينية، فإن طريق مقارعة الاٍرهاب لا تمر بتنقيح الموروث، كما يُقال، من المذهب التكفيري الذي يختزل مفهوم الجهاد إلى حضٍّ على العنف وتكفيرٍ للمسلمين، والخروجِ على مجتمعهم وقتالهم وقتلهم. بل كيف يمكن اختزال القضية إلى قضية إصلاح ديني، في حين أنها برمتها قضية سياسية في المقام الأول؟ وهل كانت الأمور ستتغير، لو صير إلى "تنقية" الموروث الثقافي من نصوص ابن تيمية، مثلاً، باعتباره أول داعشي في التاريخ كما كتب أحدهم؟

ألا يلبي اللجوء إلى ابن تيمية، وإلى غيره من متشددي الفقهاء، طلباً اجتماعياً يدفع إليه؟ وهل احتاج أبو الأعلى المودودي، ثم سيد قطب من بعده، لابن تيمية، حتى يقولا بالتكفير والهجرة وبجاهلية معاصريهما من المسلمين وبالخروج على مجتمعهم "الجاهلي"، أم أنهما وجدا ضالتهما لديه؟ لماذا لم يبحثا عن غيره من الفقهاء، وتراثنا مليء بالنصوص التي تقول ما لم يقله ابن تيمية؟ وهل نشأت الحركات التكفيرية المعاصرة جرّاء خلاف على المذهب، أو على قواعد فقهية، أو غير ذلك، أم هي، أولاً، حركات سياسية، أنجبتها شروط العالم العربي والإسلامي في السنوات الخمسين الأخيرة؟

فقط وضع الأمور في سياقها هو الذي يجعلها ممكنة الفهم والاستيعاب. فالتكفيرية الإسلامية هي كذلك من منتجات العنصرية المناهضة للمسلمين. وهي، بهذا المعنى، ليست مجرد نتاج مثقفين، نفخوا في صور التطرف، أو حثوا عليه. ولا يمكن القول إن المودودي أو سيد قطب، وغيرهما من منظري التيار التكفيري، استنبطوا "نظريتهم" من بنات أفكارهم فقط، إذ كيف يمكن تجاهل السياق التاريخي والسياسي الذي هيأ الأرضية الروحية لمثل هذا الفكر؟ نعرف، مثلاً، أن الإمبريالية البريطانية عملت، في مطالع القرن العشرين، على توظيف الدين الإسلامي في خدمة مشاريعها، للسيطرة على بلاد المسلمين. ولا يمكن تجاهل حقيقة أن الإدارة الاستعمارية البريطانية، زمن الامبراطورية، زعمت أنها أحق بالخلافة الإسلامية من غيرها من الطامعين بها، لأن رعايا التاج البريطاني من المسلمين هم الأكثر عدداً، والأكثر انتشاراً في الأرض. ومن لا يعرف حقيقة أن أميركا ريغان والمحافظين الجدد وجدت في الدين ضالتها في محاربة الشيوعية، في كل مكان في المعمورة، وليس في أفغانستان فحسب؟ 

***

نعم، يجب البحث عن جذور التطرف خارج النصوص. ولكن، ليس فقط في السياسات الإمبريالية كما تقول ديبا كومار في كتابها (إسلاموفوبيا وسياسات الامبراطورية)، حيث تُحمّل الغرب المسؤولية المباشرة عن اشتعال التطرف الديني: حربا العراق، التدخل في ليبيا، وفي غيرهما من البلدان. يجب البحث عنها كذلك في نظمنا التسلطية وإرهابها، في الفوارق الاجتماعية الفاحشة، وفي كثافة العسف والاضطهاد، وقبل ذلك كله، في انسداد الآفاق.

التكفيرية الإسلامية تستفزها إسلاموفوبيا الأصوليات القومية والدينية الأوروبية التي تُسْتَفزّ بدورها من التكفيرية الإسلامية، وهكذا. ولا يخفى أن الأصوليات الأوروبية إن اشتعل أُوارها أشد خطراً ووبالاً وأكثر تدميراً بما لا يقاس من إرهاب التكفيريين الاستعراضي. ومن يستطيع أن يتخيل مصير العالم إن انهارت القيم واصطدمت "الجماعات"، وتداعت المعايير التي تُعاديها الأصوليات من كل صوب.

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.