لا أحد يعرف من رسم تلك اللوحة؟
كانت تمتدّ على طول الجدار في مبنى الجامعة، وقد بدت مجرّد ضربات بالفرشاة لرسام مغمور.
أثارت اللوحة فضول الزائرين، كما أنها بلبلت أذهان الطلّاب المتناثرين في الممرات، واشتكى بعض الأساتذة الذين نظروا إليها من آلام في الكتف، مع وخز في القلب ورعشة في الأطراف.
كل شيء كان اعتيادياً حتى فقدت اللوحة سكونها..
قيل في المرويات القديمة، أن بعض اللوحات تسكنها المشاعر الأخيرة لرساميها وقد حُكي أن ملكاً سأل محكوماً بالإعدام عن رغبته قبل أن يموت. أجاب الأخير: أن أرسم لوحة. وكان له ما أراد، منحه الملك علبة ألوان كاملة، ونصف يوم.
في الصباح التالي، وبعد أن نفذ فيه الحكم عثروا في زنزانته على لوحة فيها صانع سيوف يطرق بيده سيفاً يحمى على النار وبجانبها رسالة. وعندما عُرضت اللوحة على الملك ندم لأنه لم يعط المحكوم وقتاً لينضج سيفه ويصقله، وأمر أن تعلق اللوحة في غرفة نومه وأن تذيّل بعبارة: "هدية من رسام الرسامين إلى الملك الكريم الذي منحه نصف يوم وعلبة ألوان كاملة".
في اليوم الذي يليه وُجد الملك الذي لا تطرف لحرّاسه عين مقتولاً، كان صانع السيوف قد اختفى من اللوحة وكانت الدماء تقطر من السيف الذي وُجد ملقياً بجانب الرأس المقطوع.
لم يكن أحد من الأساتذة الجامعيين ليؤمن بهذه المرويات سوى في "ألف ليلة وليلة"، لكن اللوحة المقابلة لمكاتبهم، صارت تطرأ عليها تبدلات، وفي كل صباح يلاحظ الأساتذة شيئاً جديداً، ففي بعض الأيام كانت تظهر على صفحتها الرمادية دوامات مائية، تغطيها الطحالب وتزداد اتساعاً كل يوم، في أيام أخرى صارت تبرز منها رؤوس تماسيح.
كانت التماسيح تحدّق في العابرين بعيون صفراء. تختفي. ثم تظهر من جديد. ولم يكن أحد ليجرؤ على البوح بما يراه، لكنها وبعد أن قضمت كتف طالب وأرعبت آخر، جعلت عمادة القسم تدعو للاجتماع، حيث قرّروا إزالة اللوحة.
استغرق العمال ثلاثة أيام لمسحها عن الجدار، وفي صباح اليوم الرابع عادت إلى مكانها، في الأسبوع التالي أحضروا رساماً مشهوراً لطمسها. بعد يومين وقبل أن ينهي الرسام عمله مات محموماً، أحد الرسامين أخبرهم باستحالة مسحها وأنه سبق له أن تعامل مع هذا النوع من اللوحات الملعونة. "والحل؟"، سأل عميد الجامعة. "الحل عندي"، أجاب الرسام الذي قال إنه يفضل العمل ليلاً.
في منتصف الليل حاول الرسام أن يطمس معالم التماسيح من خلال إدخال عناصر جديدة في اللوحة كأن يحسن وجوهها، ويكسبها مظهراً جميلاً، أو يرسم فراشات على صفحتها أو يلون النهر العكر باللون الأزرق، لكن كل ذلك لم ينفع. خطر له أن يحوّل التماسيح إلى كائنات أليفة بتغيير معالمها وهيئاتها، لكنه ما إن مدّ يده إلى وجه أحدها حتى حدث ما حدث. في الصباح وجدوا منصب الرسم والألوان وقد اختلطت بالدماء.
في الاجتماع المستعجل للهيئة التدريسية، اقترح البعض هدم الجدار كاملاً، لكن عميد الجامعة فزع بعدما رأى ما حل بالرسامين، فرفض الاقتراح وأعطاهم مهلة أسبوع لإيجاد حل، وصار يُمضي وقته وهو يراقب اللوحة.
كانت تبدو فارغة في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى يظهر تمساح ضخم يحدّق في الطلاب. في مرات أخرى كانت التماسيح تنظر إلى مكاتب الأساتذة المغلقة والتي تنبعث منها تأوهات محمومة، والذين اضطروا تحت وطأة نظراتها لنقل لقاءاتهم السرية مع طالباتهم إلى شقق بائسة خارج الجامعة.
بعد أيام بدأت الأوضاع تزداد سوءاً صار الأساتذة يجدون أدراج مكاتبهم مفتوحة، وأوراق الامتحانات قد صحّحت ووزعت عليها علامات عشوائية، بعض الأوراق كانت بيضاء ورغم ذلك نالت تقديرات عالية، الأوراق التي كانت إجاباتها دقيقة كانت تنال صفراً.
التلاميذ المحبطون توزّعوا أمام المكاتب ولم تنفع الشكاوى التي رفعوها في شيء سوى في مزيد من البلبلة والتذمر. الأساتذة صاروا يجدون المحاضرات جاهزة فوق مكاتبهم، أما مسودات المحاضرات فقد تم العبث بها: فولتير صار مغنياً، وأينشتاين مفكراً وجودياً، وديكارت من فلاسفة العبث إلى جانب ذلك وجدوا قصاصات تحذرهم من الخروج عما كتب لهم.
بالنسبة لعميد الجامعة صار يوقع القرارات دون أن يقرأها وأشاع التلاميذ أن التماسيح هي من توقع بالنيابة عنه، لكن أحداً لم يقل ذلك علانية، التلاميذ أيضاً لم ينج أي منهم من تأثيرها صاروا يسيرون بشرود في ممرات الجامعة، وفقدوا إيمانهم في كل شيء ما عدا الحظ والصدفة.
ذات صباح وقف طالب يلاعب قطة صغيرة وحين رماها في الهواء التهمها أحد التماسيح وابتسم له، منذ ذلك الحادث، أخذ الطلاب يتقربون من التماسيح وصاروا يملؤون حقائبهم بالفئران بدلاً من الكتب، بعضهم أحضر لها أرانب وآخرون أحضروا دجاجاً وصاروا يرمونه لها، والأساتذة فعلوا ما فعله تلاميذهم مع الوقت لم تعد التماسيح تكتفي بالفئران والأرانب التي يرميها لها الطلبة بل صارت تصدر أصوات اصطكاك أسنانها وتنظر لهم بغضب.
حاول العميد إيجاد حل دون جدوى إلى أن قرّر: "سنهدم الجدار ونرميه في النهر". "هذا هو الحل"؛ ردّد الأساتذة المجتمعين في مكتبه وصفقوا له.
في الصباح التالي وحين دخلوا من الباب وجدوا أن اللوحة اتسعت وملأت الجدران الأربعة، وقبل أن يباشر العمال بالهدم، فاض النهر وانبثقت من دوّاماته تماسيح صغيرة وكبيرة. سقطت فوق الرخام ثم جرفتها المياه القوية نحو الباب الخارجي ومن هناك، انتصبت التماسيح على أقدامها ونفضت المياه عن ظهورها وبدأت بالزحف إلى المدينة.