التوظيف السياسي للإرهاب
لم تعد حوادث الإرهاب أمراً طارئاً على المستوى الدولي، حيث لم تخل دولة من أحداث عنف، ذات خلفية سياسية، تستهدف المدنيين وبدرجات متفاوتة. ومهما اختلفت قوة الأجهزة الأمنية، وتفاوتت إمكاناتها واستعداداتها، فإن الوقائع تكشف عن تواتر العمليات الإرهابية وانتشارها على امتداد الجغرافيا الدولية، وتعدد هويات منفذيها، وهو ما يكشف عن صعوبة منع حصولها حتى لدولٍ ذات قدرات استخبارية عالية (تفجير أوكلاهوما سيتي 1995 وتفجيرات سبتمبر/أيلول 2001 في الولايات المتحدة، أو ما عرفته بريطانيا وفرنسا من أحداث مشابهة)، غير أن الفارق بين دولة وأخرى يكمن في طريقة التعامل مع مثل هذه الظاهرة، حيث كانت هذه الأحداث دافعاً لمزيد التأكيد على الوحدة الوطنية أمام الخطر الذي يتهدد جميع الأطراف، إلا أن ما حصل في تونس، أخيراً، من عمل إرهابي شنيع، استهدف السواح الأجانب، كشف عن رغبة خفية لدى بعض القوى، لتوظيف هذا الحدث سياسياً وتحويله إلى مناسبةٍ لاتهام المنافسين السياسيين بالمسؤولية عما جرى، وهو ما شهدته الساحات الإعلامية في تونس، حين وجه إعلاميون وناشطون حزبيون إصبع الاتهام للتيار الإسلامي العام، وتحديداً حركة النهضة ولحكومة الترويكا (السابقة)، وتحميلها المسؤولية عن العمليات الإرهابية التي عرفتها البلاد.
فمن المطالبة إلى إقصاء التيار الإسلامي، بوصفه مهّد للإرهاب الطريق لينمو، إلى الحديث عن دور مفترض للجمعيات الخيرية في دعم جماعات العنف، وصولاً إلى مطالبة أحد النواب ممن ينتمي إلى حزب يشارك في حكومة الحبيب الصيد إلى إغلاق المساجد، وقد حاول منتسبون لقوى حزبية معروفة بمناوءتها التيار الإسلامي توجيه الاتهام إلى دول بعينها باعتبارها حاضنة للإرهاب، أو المطالبة بوقف المنظمات الحقوقية، والتضييق على الحريات، على اعتبار أنها من أسباب تغول الجماعات الإرهابية (هكذا).
يعبر هذا التوظيف السياسي والحزبي لمأساة إنسانية وكارثة وطنية مست جميع الأطراف، ودانتها جميع القوى السياسية، عن قصور في الرؤية السياسية، حيث أن ظاهرة الإرهاب لم تكن حدثاً معزولاً عن سياقاته التاريخية، وارتباطاته بأوضاع داخلية، وأخرى إقليمية ودولية، حيث عرفت تونس أحداثاً مشابهة، زمن حكم بن علي (تفجير كنيس الغريبة سنة 2002 وأسفر عن مقتل سواح)، أو المواجهات الدامية بين القوى الأمنية ومسلحين سنة 2005، على الرغم من أن النظام، حينها، كان يقترف أشد أشكال المراقبة الأمنية، وهو أمر يثبت أن الظاهرة ليست وليدة اللحظة الراهنة، بل تقول الوقائع إن سياسات النظام، زمن حكم بن علي، كانت أحد الأسباب الجوهرية التي أدت إلى تفريخ الإرهاب وتكاثره، سواء بالتركيز على القمع الأمني المفرط، أو حتى من خلال ما يمكن وصفه بتصنيع جماعات العنف مخابراتياً، ليجد النظام حينها مبرراً لمواصلة سياساته القمعية ضد جميع الأطراف المعارضة له، بدعاوى محاربة الإرهاب، وتجفيف منابعه. وإذا كان من غير الممكن إنكار تطور جماعات العنف، في ظل الفوضى التي شهدتها دول مجاورة لتونس، فإنه من غير الممكن، أيضاً، اتهام حكومة الترويكا السابقة، مثلاً، بأنها السبب الرئيس لانتشار الإرهاب، وأنها من وفر له حاضنة الانتشار والتمدد. والأسوأ في خطابات التوظيف السياسي للإرهاب تحويله المعركة من صراع ضد جماعات معزولة، تقوم بعمليات يائسة لضرب الاستقرار في تونس، إلى صراع بين الأحزاب السياسية، وكيْل الاتهامات المتبادلة، وهو ما يحرف الانتباه عن الصراع الرئيسي، ليتحول الأمر إلى معارك جانبية، المستفيد منها هو الجماعات الإرهابية نفسها.
الخطوات المهمة التي قطعتها تونس نحو تأسيس نظام سياسي تعددي قائم على التعايش ومنطق الائتلاف جعلتها هدفاً لقوى كثيرة، لا ترغب في نجاح هذا النموذج، وتسعى إلى إفشاله، وهي قوى في الداخل والخارج، لا تخفي انزعاجها من التحول الديمقراطي التونسي، وترى أن إطاحته يمثل غاية تخدم سعيها إلى إفشال الثورات العربية، وهي التي نجحت في دعم الانقلاب المصري، ودفع الثورة السورية نحو فوضى السلاح وإدخال اليمن في أتون صراعٍ قد يفضي بالبلد إلى التشطير. وهذا التقاطع بين قوى الثورات المضادة وداعميها الخارجيين من جهة وجماعات الإرهاب من جهة أخرى يطرح أكثر من سؤال، بشأن الأجندات الخفية التي تندرج ضمنها العمليات الإرهابية، وتطرح، أيضاً، على القوى الحزبية وعقلاء المشهد السياسي التونسي تحديات كبيرة، من أجل الحفاظ على المكتسبات التي تحققت منذ ثورة 14 يناير/كانون ثاني 2011، وإبقاء البلد خارج التجاذبات، صيانة للوحدة الوطنية والسلم الأهلي.