09 نوفمبر 2024
الثقافة المدنيّة.. المقدّسة!
لم يعد ممكناً اتزان الحياة في مدينة ما، في العالم كله، من دون "ثقافة مدنيّة" تحدد (وتؤطر) السلوك اليومي، الفردي والجماعي، في تلك المدينة. ينطبق هذا الحال طبعاً على مدننا العربية الكبيرة التي ما تزال مجتمعاتها تراوح بين المدنيّة وما قبل المدنيّة، في شكل سلوكها، وفي مضمونه أيضاً، فالقانون يُحترم من الناس ولا يُحترم في الآن نفسه، والفضاء العام تُحترم ملكيته العامة ولا تُحترم في الآن نفسه، وليس مرد ذلك فقط إلى أن ثمّة من يحترمون القانون والفضاء العام، ويمارسون مفردات الثقافة المدنية، وثمّة من لا يحترمونه ولا يمارسونها، بل أيضاً أن ثمّة من يترددون في سلوكهم بين هذه وتلك، لأنهم يعيشون، في لاوعيهم، ثقافتين: قديمة وجديدة، تتراوح بينهما مصالحهم اليومية والمعيشية، وذلك طبيعي، ما لم تصبح ممارسة مفردات الثقافة المدنية مصلحةً وحيدةً لكل واحد فينا، تفضي إلى إيجاد دولٍ مدنية، أي دول لجميع مواطنيها، تجسّد تلك المصلحة، فتتحدد علاقتهم بها وعلاقاتهم فيما بينهم عبر ثنائية القانون والمؤسسات، وهكذا يتساوون في الحقوق والواجبات وفق القانون، ويتكافأون في الفرص، عبر الأطر المؤسسية التي لا تتحيز لأحد على أحد على أساس أصله أو دينه أوعرقه، وإنما تُفاضل بين الناس على أساس كفاءاتهم.
لكن، وما دامت الثقافة المدنيّة لم تمثل بعد مجالاً لتحقيق المصالح الفردية، فتتكرّس في حياتنا بالضرورة، فإن ثمّة من يلجأون إلى مداخل أخرى، سوى "المصلحة"، لتكريس تلك الثقافة، وأبرز تلك المداخل هي الإيمان الديني، فيقولون إن تلك الثقافة هي ما يريده الإسلام، بدليل أن المسلمين سمّوا دولتهم الأولى باسم "المدينة". وهكذا، فبدل أن يقبل الناس الثقافة المدنيّة، لأن فيها مصلحتهم الحقيقية، يريد أصحاب تلك الفكرة من الناس أن يقبلوها لأنها "ثقافة مقدسة"!
ثمة ملاحظتان على تلك الفكرة:
الأولى: أنها تستعيد تلك العقبة الأساسية التي ظلت تعاني منها البرامج والأفكار والتطبيقات التي عرفها العالم العربي على امتداد القرن العشرين، وسببت فشلها الذريع في إنجاز النهوض الحضاري المأمول، وتتمثل في اتجاه كل الأفكار إلى اختيار نموذج تطبيقي عرفه بشر آخرون غيرنا، سواء عاشوا في زمان آخر أو يعيشون في مكان آخر، والقياس عليه لتحديد مدى وجاهة ما نصنع وقيمته ونفعه لنا، كما فعل، مثلاً، الشيوعيون العرب، حين اتخذوا الاتحاد السوفييتي نموذجاً يقيسون عليه. وقد منعت فكرة "النموذج" ابتكار تطبيقات وبرامج جديدة بالكامل، تناسبنا نحن وحدنا زماناً ومكاناً، وتحتفظ، في الوقت نفسه، بالمرجعية الأساسية التي تنطلق منها، على طريقة ما حدث مثلاً في الصين التي ابتكرت منهجها الخاص، مستندةً فقط إلى النظرية الأصلية من دون استعمال التطبيقات البشرية الأخرى، فأنجزت نهضتها. يمكننا طبعاً أن نلجأ إلى تفكير مبني على روح الإسلام، لكن من دون حاجةٍ لأي نموذج جاهز، لأنه سيظل نموذجاً يناسب زمانه ومكانه ولا يناسبنا نحن بالضرورة.
الملاحظة الثانية: القياس على مجتمع وجد قبل مئات السنين، حتى لو كان قياساً إيجابياً، وحتى لو استخدمنا في وصفه مصطلحات معاصرة، مثل المواطنة والدستور والعوامل الاقتصادية، هو قياس يهدر البعد التاريخي في تغيّر بنى المجتمعات البشرية وأحوالها، وطبيعة الدول التي تقوم عليها. صحيحٌ أن مجتعاتنا العربية ما تزال تراوح، كما يقال، بين الأبوية والحداثة، إلا أن هياكل دولنا هي هياكل معاصرة: فلدينا دساتير وسلطات ثلاث ومؤسسات. ولذلك، فإن قياس دول ذات شكل معاصر على "دولة" سابقة هو قياس غير موضوعي، نجد أنه يضطرنا، في حال الإصرار عليه، إما إلى استعمال مصطلحاتنا المعاصرة لوصف تلك الدولة، مثل الدستور والمواطنة وما شابه، على الرغم من أن تلك الدولة لم تعرف هذه المصطلحات والمفاهيم، أو يضطرنا إلى العكس؛ أي استعمال مفاهيم تلك "الدولة" ومصطلحاتها، لوصف دولنا ومجتمعاتنا المعاصرة، على الرغم من أنها لا تناسبنا، ولا تنطبق علينا.
هكذا، لا يكون ثمة فائدة كبرى من اللجوء إلى مداخل أخرى، سوى "المصالح"، لتكريس الثقافة المدنيّة.
لكن، وما دامت الثقافة المدنيّة لم تمثل بعد مجالاً لتحقيق المصالح الفردية، فتتكرّس في حياتنا بالضرورة، فإن ثمّة من يلجأون إلى مداخل أخرى، سوى "المصلحة"، لتكريس تلك الثقافة، وأبرز تلك المداخل هي الإيمان الديني، فيقولون إن تلك الثقافة هي ما يريده الإسلام، بدليل أن المسلمين سمّوا دولتهم الأولى باسم "المدينة". وهكذا، فبدل أن يقبل الناس الثقافة المدنيّة، لأن فيها مصلحتهم الحقيقية، يريد أصحاب تلك الفكرة من الناس أن يقبلوها لأنها "ثقافة مقدسة"!
ثمة ملاحظتان على تلك الفكرة:
الأولى: أنها تستعيد تلك العقبة الأساسية التي ظلت تعاني منها البرامج والأفكار والتطبيقات التي عرفها العالم العربي على امتداد القرن العشرين، وسببت فشلها الذريع في إنجاز النهوض الحضاري المأمول، وتتمثل في اتجاه كل الأفكار إلى اختيار نموذج تطبيقي عرفه بشر آخرون غيرنا، سواء عاشوا في زمان آخر أو يعيشون في مكان آخر، والقياس عليه لتحديد مدى وجاهة ما نصنع وقيمته ونفعه لنا، كما فعل، مثلاً، الشيوعيون العرب، حين اتخذوا الاتحاد السوفييتي نموذجاً يقيسون عليه. وقد منعت فكرة "النموذج" ابتكار تطبيقات وبرامج جديدة بالكامل، تناسبنا نحن وحدنا زماناً ومكاناً، وتحتفظ، في الوقت نفسه، بالمرجعية الأساسية التي تنطلق منها، على طريقة ما حدث مثلاً في الصين التي ابتكرت منهجها الخاص، مستندةً فقط إلى النظرية الأصلية من دون استعمال التطبيقات البشرية الأخرى، فأنجزت نهضتها. يمكننا طبعاً أن نلجأ إلى تفكير مبني على روح الإسلام، لكن من دون حاجةٍ لأي نموذج جاهز، لأنه سيظل نموذجاً يناسب زمانه ومكانه ولا يناسبنا نحن بالضرورة.
الملاحظة الثانية: القياس على مجتمع وجد قبل مئات السنين، حتى لو كان قياساً إيجابياً، وحتى لو استخدمنا في وصفه مصطلحات معاصرة، مثل المواطنة والدستور والعوامل الاقتصادية، هو قياس يهدر البعد التاريخي في تغيّر بنى المجتمعات البشرية وأحوالها، وطبيعة الدول التي تقوم عليها. صحيحٌ أن مجتعاتنا العربية ما تزال تراوح، كما يقال، بين الأبوية والحداثة، إلا أن هياكل دولنا هي هياكل معاصرة: فلدينا دساتير وسلطات ثلاث ومؤسسات. ولذلك، فإن قياس دول ذات شكل معاصر على "دولة" سابقة هو قياس غير موضوعي، نجد أنه يضطرنا، في حال الإصرار عليه، إما إلى استعمال مصطلحاتنا المعاصرة لوصف تلك الدولة، مثل الدستور والمواطنة وما شابه، على الرغم من أن تلك الدولة لم تعرف هذه المصطلحات والمفاهيم، أو يضطرنا إلى العكس؛ أي استعمال مفاهيم تلك "الدولة" ومصطلحاتها، لوصف دولنا ومجتمعاتنا المعاصرة، على الرغم من أنها لا تناسبنا، ولا تنطبق علينا.
هكذا، لا يكون ثمة فائدة كبرى من اللجوء إلى مداخل أخرى، سوى "المصالح"، لتكريس الثقافة المدنيّة.