28 أكتوبر 2024
الثورة المضادة: سورية أنموذجاً
لم تنشأ ثورة في التاريخ، إلا وأعقبتها ثورة مضادة، إما محاولة لتصحيح مسارها بعد جنوحها الراديكالي الذي أصبح يهدد مسيرتها وأهدافها، أو نفياً كاملاً للثورة الأصلية. وعادة ما تكون الثورات المضادة أكثر عنفاً، لأنها، في الحالة الأولى، أي حالة تصحيح المسار، تعيد الثورة المضادة إحياء الأفكار البيوريتانية التي انطلقت منها الثورة الأصلية. ولكن، بشكل أكثر حدة، وفي الحالة الثانية، تكون الثورة المضادة أكثر غضباً، لخوف الأنظمة الحاكمة من خسارة المكاسب الكبيرة التي راكمتها سنوات طويلة.
شكلت فرنسا أنموذجا للحالة الأولى، حيث شهدت البلاد بين عامي 93 ـ 1794 ثورتين مضادتين لتصحيح مسار الثورة الأصلية. كانت الأولى في فانديه، وحمل لواءها الفلاحون ضد اليسار الراديكالي والبورجوازية على السواء، في حين جرت الثانية بعد عام مع الانقلاب الذي قام به الجيردونيون واللامتسرولون ضد عهد الرعب الذي أقامه اليعاقبة على مدار ثلاث سنوات، ولم ينته عهد الرعب هذا إلا بالقضاء على اليعاقبة وزعيمهم، روبسبيير، في التاسع من ثيرميدور عام 1794، لتبدأ مرحلة الاعتدال مع الجيردونيين.
مع ذلك، دفع عمق الثورة ويساريتها كثيرين إلى الانشقاق عنها، وتبني أفكار رجعية، صبت في مصلحة الملكية وأسرة البوروبون الحاكمة التي استطاعت العودة إلى الحكم عام 1814، وقد وجدت الملكية ضرورة تبني بعض مقولات الثورة، من أجل البقاء في الحكم، لكن اندفاعة الثورة، والأحداث التي شهدها مطلع القرن التاسع عشر، حالت دون استمرار الحلول الوسط التي جاءت بها الملكية والتي انهارت نهائياً في ثورة 1848 بإقامة الجمهورية الثانية.
عربياً، استطاعت قوى تابعة للنظام القديم في تونس ومصر تبني بعض مقولات الثورة، وقدمت نفسها أنموذجاً وسطاً، كما الحال في تونس مع الباجي قائد السبسي وحزبه، نداء تونس، الذي جمع بين القديم والجديد، وكما الحال في مصر مع عبد الفتاح السيسي، ومع أن الأخير قام بانقلاب واضح على الشرعية الثورية ونتاجها الديمقراطي، إلا أن خطوته جاءت ضمن مقولات الثورة، وليس من خارجها، وهذا السبب الذي جعلها تحصل على تأييد مقبول من الشعب المصري. وإذا كانت تونس ومصر على المستوى العربي تنتميان إلى الحالة الأولى، فإن سورية تنتمي إلى الحالة الثانية، النفي الكامل للثورة، وهذا استثناء تاريخي، يضاف إلى حالات الاستثناء التي تميزت بها التجربة السورية.
منذ بداية الثورة السورية، اختار النظام الخيار الأمني، بل حتى قبل بدء الثورة مع حادثة أطفال درعا، حيث فضل النظام ترك معالجة الأمر للمستوى الأمني، وليس السياسي، حيث لم ينتظر سوى خمسة أيام للانقضاض على الشباب المعتصم في مسجد العمري في 25 من الشهر نفسه، لتنفجر الأحداث في عموم سورية، دعما لدرعا وانتفاضتها. هنا، تدخل المستوى السياسي، لا ليحيل البعد الأمني جانباً، وإنما ليعطيه شرعية دولية، فقد كان خطاب الرئيس، بشار الأسد، نهاية مارس/آذار، يتمحور حول المؤامرة الأميركية ـ الصهيونية وأدواتها المحلية، ولتبدأ معها الاستراتيجية الأمنية بالتنفيذ، منعاً لنشوء ميادين مليونية في سورية، على غرار تظاهرة ميدان التحرير في مصر.
ولم تمضِ أسابيع على التظاهرات، حتى بدأ النظام باتهام الحركة الاحتجاجية بمحاولة إحداث فتنة طائفية في البلاد، وساعدت بعض الأحداث الطائفية المرتبة مسبقاً من النظام وبعض الاعتداءات الطائفية من متظاهرين على تبني النظام مقولتي الفتنة الطائفية والمؤامرة، مما أدى إلى استنفار الأقليات، وتحويلها من أقليات دينية إلى أقليات سياسية، لا سيما الأقلية العلوية، عبر إعادة إحياء اللاوعي الجمعي والذاكرة التاريخية.
ثم نقل النظام بعد ذلك، مستغلا حادثة جسر الشغور التي ما زالت كيفية تنفيذها مجهولة، الثورة المضادة، من مستواها الأمني إلى المستوى العسكري، بإقحام الجيش في مواجهة الثوار. وفي هذه المرحلة، قام النظام بخطوات سياسية، لا تعبر عن انعطافة إيديولوجية بأهمية الإصلاح السياسي، بقدر ما تعبر عن وعي تكتيتكي بضرورة تطويق الثورة، من خلال إصلاحات شكلية، لا تغير شيئا في البنى السياسية والاقتصادية القائمة منذ سنوات. هكذا تم إلغاء قانون الطوارئ مع إبقاء الخيار الأمني ـ العسكري قائما، وهكذا تم إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تجعل حزب البعث قائداً في المجتمع والدولة، مع إبقاء الحزب مؤسسة الأداة المهيمنة سياسيا واقتصاديا، وهكذا أيضا تم تعديل الدستور مع إعطاء الرئيس صلاحيات رئاسية أكثر، على حساب المؤسستين التشريعية والقضائية. لكن، مع الانزياح الذي أصاب الثورة، بداية عام 2013، بسيطرة مسلحين من جنسيات غير سورية على المشهد الميداني، بدأت مرحلة جديدة ضمن معادلة الصراع الإقليمي والدولي على سورية، ووجد النظام في هذا التحول فرصة للتهرب من المتطلبات السياسية، ولتحل مقولات المؤامرة والإرهاب محل لغة السياسة لحل الأزمة السورية.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، لم يحتو خطاب السلطة على أية مفردة سياسية، حيث تم اختزال الأزمة إلى مجرد مؤامرة كونية، غايتها تدمير موقع سورية ضمن الخارطة الجيوستراتيجية للمنطقة. ومع أن في هذا الرأي شيئاً من الصحة، إلا أن اعتباره السبب الوحيد للأزمة السورية وتجاهل التدمير الذي ألحقه النظام في الدولة والمجتمع، ثم التدمير الذي ألحقه بالثورة، عطل أية إمكانية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، ونقل الأزمة من مستواها المحلي إلى مستوييها، الإقليمي والدولي.
مع ذلك، دفع عمق الثورة ويساريتها كثيرين إلى الانشقاق عنها، وتبني أفكار رجعية، صبت في مصلحة الملكية وأسرة البوروبون الحاكمة التي استطاعت العودة إلى الحكم عام 1814، وقد وجدت الملكية ضرورة تبني بعض مقولات الثورة، من أجل البقاء في الحكم، لكن اندفاعة الثورة، والأحداث التي شهدها مطلع القرن التاسع عشر، حالت دون استمرار الحلول الوسط التي جاءت بها الملكية والتي انهارت نهائياً في ثورة 1848 بإقامة الجمهورية الثانية.
عربياً، استطاعت قوى تابعة للنظام القديم في تونس ومصر تبني بعض مقولات الثورة، وقدمت نفسها أنموذجاً وسطاً، كما الحال في تونس مع الباجي قائد السبسي وحزبه، نداء تونس، الذي جمع بين القديم والجديد، وكما الحال في مصر مع عبد الفتاح السيسي، ومع أن الأخير قام بانقلاب واضح على الشرعية الثورية ونتاجها الديمقراطي، إلا أن خطوته جاءت ضمن مقولات الثورة، وليس من خارجها، وهذا السبب الذي جعلها تحصل على تأييد مقبول من الشعب المصري. وإذا كانت تونس ومصر على المستوى العربي تنتميان إلى الحالة الأولى، فإن سورية تنتمي إلى الحالة الثانية، النفي الكامل للثورة، وهذا استثناء تاريخي، يضاف إلى حالات الاستثناء التي تميزت بها التجربة السورية.
منذ بداية الثورة السورية، اختار النظام الخيار الأمني، بل حتى قبل بدء الثورة مع حادثة أطفال درعا، حيث فضل النظام ترك معالجة الأمر للمستوى الأمني، وليس السياسي، حيث لم ينتظر سوى خمسة أيام للانقضاض على الشباب المعتصم في مسجد العمري في 25 من الشهر نفسه، لتنفجر الأحداث في عموم سورية، دعما لدرعا وانتفاضتها. هنا، تدخل المستوى السياسي، لا ليحيل البعد الأمني جانباً، وإنما ليعطيه شرعية دولية، فقد كان خطاب الرئيس، بشار الأسد، نهاية مارس/آذار، يتمحور حول المؤامرة الأميركية ـ الصهيونية وأدواتها المحلية، ولتبدأ معها الاستراتيجية الأمنية بالتنفيذ، منعاً لنشوء ميادين مليونية في سورية، على غرار تظاهرة ميدان التحرير في مصر.
ولم تمضِ أسابيع على التظاهرات، حتى بدأ النظام باتهام الحركة الاحتجاجية بمحاولة إحداث فتنة طائفية في البلاد، وساعدت بعض الأحداث الطائفية المرتبة مسبقاً من النظام وبعض الاعتداءات الطائفية من متظاهرين على تبني النظام مقولتي الفتنة الطائفية والمؤامرة، مما أدى إلى استنفار الأقليات، وتحويلها من أقليات دينية إلى أقليات سياسية، لا سيما الأقلية العلوية، عبر إعادة إحياء اللاوعي الجمعي والذاكرة التاريخية.
ثم نقل النظام بعد ذلك، مستغلا حادثة جسر الشغور التي ما زالت كيفية تنفيذها مجهولة، الثورة المضادة، من مستواها الأمني إلى المستوى العسكري، بإقحام الجيش في مواجهة الثوار. وفي هذه المرحلة، قام النظام بخطوات سياسية، لا تعبر عن انعطافة إيديولوجية بأهمية الإصلاح السياسي، بقدر ما تعبر عن وعي تكتيتكي بضرورة تطويق الثورة، من خلال إصلاحات شكلية، لا تغير شيئا في البنى السياسية والاقتصادية القائمة منذ سنوات. هكذا تم إلغاء قانون الطوارئ مع إبقاء الخيار الأمني ـ العسكري قائما، وهكذا تم إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي تجعل حزب البعث قائداً في المجتمع والدولة، مع إبقاء الحزب مؤسسة الأداة المهيمنة سياسيا واقتصاديا، وهكذا أيضا تم تعديل الدستور مع إعطاء الرئيس صلاحيات رئاسية أكثر، على حساب المؤسستين التشريعية والقضائية. لكن، مع الانزياح الذي أصاب الثورة، بداية عام 2013، بسيطرة مسلحين من جنسيات غير سورية على المشهد الميداني، بدأت مرحلة جديدة ضمن معادلة الصراع الإقليمي والدولي على سورية، ووجد النظام في هذا التحول فرصة للتهرب من المتطلبات السياسية، ولتحل مقولات المؤامرة والإرهاب محل لغة السياسة لحل الأزمة السورية.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، لم يحتو خطاب السلطة على أية مفردة سياسية، حيث تم اختزال الأزمة إلى مجرد مؤامرة كونية، غايتها تدمير موقع سورية ضمن الخارطة الجيوستراتيجية للمنطقة. ومع أن في هذا الرأي شيئاً من الصحة، إلا أن اعتباره السبب الوحيد للأزمة السورية وتجاهل التدمير الذي ألحقه النظام في الدولة والمجتمع، ثم التدمير الذي ألحقه بالثورة، عطل أية إمكانية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، ونقل الأزمة من مستواها المحلي إلى مستوييها، الإقليمي والدولي.