قرأت بعناية، ردود الفعل على انتحار الناشطة السياسية "زينب مهدي"، وكانت في أغلبها، تدين السلطة التي تقمع، والدولة التي تقتل الأحلام.. لكني، كنت مشغولاً بالتفتيش عن رد فعل، ينتمي للمعسكر الآخر.. هؤلاء الذين يسبّحون بحمد السلطة، وتقتصر أحلامهم على رؤية السيسي في منصبه إلى ما لا نهاية.
فردود أفعالهم، وتعليقاتهم السابقة، على الحوادث والأخبار اليومية، توفر لي مساحة كبيرة للتأمل، في محاولة متواصلة لفهم، كيف يمكن لإنسان، أن يرى في صورة شديدة الوضوح، صوراً أخرى، لا تمت للحقيقة بصلة.
هم، في دأب دائم، لإثبات علاقة الإخوان بكل شر، حتى إن أحدهم، قال منذ أيام، إن هزائم منتخب كرة القدم في المباراة الأخيرة، تقف وراءها (بل وأمامها) جماعة إرهابية محظورة، هكذا يفضلون وصفها.
لكن زينب، قتلت نفسها بنفسها. لم تترك مساحة لأن يتم إلقاء المسؤولية على جهة أخرى، ولا توجد نتيجة لموتها، تهدد الدولة، أو تهز عرش السلطة، الجماعة المحظورة لن تحصل على أي مكاسب، نتيجة انتحار فتاة بريئة شابة؟ فمن الذي قتل زينب إذن؟!
الحياة، بالنسبة للذين يدعمون بقاء الوضع على ما هو عليه، في مصر بعد وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، غير ممكنة، ولا مريحة بما يكفي، دون وجود عدو دائم، قوي وعنيف، دموي وقاتل، يتحمل وحده المصائب والشرور، يدبر الفشل، ويخطط للهزائم.. ينتصر دائماً، لكن هذا لا يكفي، بحيث يفقد أحدهم الأمل، في أن الانتصار على ما سبق قادم لا محالة، بفضل تعليمات السيد الرئيس المنتخب، صاحب الشرعية الدائمة.
هؤلاء، يملكون الأمل، رغم عدم منطقيته، لا يصيبهم يأس أو إحباط. كل فشل مبرر، كل هزيمة خطوة إلى الأمام، كل شيء محسوب ومدروس، لا شيء يستحق التفكير والتفسير. طالما سيادته بخير، فالكل بخير، وكفى الله المواطنين شر المعارضة.
زينب انتحرت، لأنها قررت دفع ثمن حلم لم يتحقق. فتشت عن المستقبل بين تيارات عدة، تعبت لأجل حلمها، أخلصت له. فلما رأته يضيع، فقدت معه أعز ما تملك.. حياتها!
المعسكر الآخر، بلا زينب، أحلامهم السخيفة، التي هي في واقع الأمر كوابيس تتحقق دائماً، وحين تفشل خطتهم، فالجماعة المحظورة، والإرهاب، المؤامرة الخارجية، شماعات جاهزة، لإلقاء اللوم، بحيث ينامون ليلاً، بطمأنينة كاملة.. لا يشغلهم شيء، إلا مزيد من القتال، ضد أعدائهم.
لا أحد، بينهم، يفقد الأمل، لا أحد يشعر باليأس، لا أحد يعترض، لا أحد يفكر بالانتحار.. وزينب، لم تكن واحدة منهم..
زينب، لو أنها انتخبت السيسي، وتبرعت لحفر ناشف في الصحراء، وأيدت حرب مبهمة على الإرهاب، ودعمت تهجير الأهالي في سيناء، ووضعت "البيادة" أعلى رأسها، ونزلت الميدان في حماية الشرطة لتفويض السلطة بالقتل غير المشروط للأعداء.. زينب لو أنها تواظب على مشاهدة أحمد موسى، وتصدق نظريات توفيق عكاشة، وتعجبها قصائد الأبنودي الأخيرة، وتجد في خطابات الرئيس ما يمنحها الأمل؛ زينب، لو كانت تنتمي إليهم، فإن فكرة الإنتحار لم تكن لتراودها.. على الإطلاق.
فالأشياء السابقة، تمنع الإنسان من أمور سخيفة، كتصديق كلمات بلا معنى عن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، كالتعاطف مع المظلومين، كالإيمان بفكرة تستحق، كالاهتمام بمستقبل الأجيال القادمة، كالبكاء على أطفال يموتون حرقاً داخل حافلة تنقلهم صباحاً لمدرسة هي بالأساس متهالكة وغير صالحة، كالتأثر بأغنيات لطيفة، تتحدث عن الأمل.. كالوقوف احتجاجاً على منع أغنيات مطرب شاب من الإذاعة، لأن موقفه السياسي لا يعجب السلطة.
زينب، وقفت في مكان خطر جداً، آمنت بثورة حقيقية، والثورة في مصر، ما لم تدعمها السلطة (!!) ضارة جداً بالصحة، وتسبب الوفاة..
*مصر