في شوارع العراق، جثث مرميّة على جوانب الطرقات، لا أسماء لها ولا هويات. هي جثث تعود لأشخاص ارتكبت ميليشيات طائفيّة بحقّهم جرائم، سُجّلت ضدّ مجهول. فسلطة تلك الميليشيات تتفوّق على سلطة الشرطة. والأهل لا يتعرّفون على جثث أبنائهم المشوّهة إلا بالصدفة.
ومشاهد تلك الجثث باتت مادة لأحاديث العراقيّين "تماماً كما الحديث عن التسوّق أو عن مباراة في كرة القدم"، بحسب ما يلفت الموظف في وزارة الصناعة، رائد منصور، الذي يضيف "لقد اعتدنا الأمر. وربما، إذا لم نشاهد جثثاً مجهولة أو نسمع بها طيلة أسبوع، لعجبنا من ذلك".
علامة مميّزة
ويقول الشرطي، حيدر عبد الصاحب، هنا، إنه ساهم في نقل 15 جثة مجهولة الهويّة من بين 23 جثة في خلال شهر واحد. ويوضح "أحياناً تردنا بلاغات من مواطنين بوجود جثة ملقاة على قارعة طريق، أو أمام محل تجاري، أو وسط زقاق ما، أو في النهر. وبدورنا نقوم بنقل الجثة إلى دائرة الطب العدلي".
ويشير عبد الصاحب، إلى أنّ عدداً كبيراً من الجثث التي نقلها "أخفيت ملامحها بعد حرقها أو تشويه وجوه أصحابها بالكامل، من دون العثور على بطاقات تعريف خاصة بالقتلى". ويقول إنّ ذوي القتيل يتعرّفون إلى ولدهم من خلال ملابسه أو علامة معيّنة ما في جسده.
وما قام به عمر، ما هو إلا محاولة لتسهيل الأمر على أهله كما أشار. فهو وشم شجرة على ذراعه. وعندما وقف الحاج يونس صامتاً أمامه وعاجزاً أمام ما فعله ابنه، كان تبرير الأخير: "كي تتعرّفوا على جثتي إذا ما قتلت!".
الوشم مرفوض في قاموس الحاج يونس، هذا الرجل المتديّن، المعروف بسلوكه القويم ونصائحه التي يقدّمها للأقارب والجيران. لكن الشاب العشريني تمكّن وبجملة واحدة من منع الوالد الغاضب من ضربه.
ويؤكّد الحاج يونس أن كلام ابنه منعه من ممارسة دوره التأديبي المعتاد. فتلك الكلمات كان لها صدى في داخله، وأدمعت عيناه. وذهب في خياله إلى مشاهد لجثث شباب مخفيّة الملامح، وهو بينها يبحث عن عمر. هو لا يريد أن يفقده مثلما فقد ولده البكر أحمد، الذي قتلته ميليشيات متطرّفة في العام 2008، وألقت جثته في نهر دجلة. لكن اعتذار عمر، سرعان ما أعاده إلى الواقع.
خوف من المستقبل
يشعر عدد كبير من المواطنين العراقيّين بهذا الخطر الذي يتربّص بأطفالهم. فثقافة القتل هي السائدة اليوم، ومشهد الجثث بحسب المدرّس، عبد القادر فرمان، "لا مفرّ للأطفال من مصادفته". ويقول "ما عاد باستطاعتنا نحن الآباء ردع أولادنا عن التفكير بالقتل. إن حاصرنا تلك الثقافة في البيت، فنحن عاجزون عن مواجهتها في الشارع والمدرسة والأماكن العامة. حتى القنوات التلفزيونيّة نفسها، باتت تبث ما يتعلق بالقتل". ويلفت فرمان إلى أن "كارثة تنتظر الأجيال المقبلة. فمن غير المعقول أن ينشأ جيل جديد بشكل سليم مع ثقافة خالية من القتل والعداء، بعد اعتياده رؤية جثث ملقاة هنا وهناك".
وفي هذا السياق تقول المشرفة التربويّة في إحدى المدارس الأهليّة في بغداد، سناء العبادي، إن سلوك التلاميذ الصغار تغيّر كثيراً وقد تأثروا بمشاهد القتل وجثث القتلى. تضيف أن هذه المشاهد ألقت بظلالها السلبيّة على شخصيّة هؤلاء الذين "باتوا عدائيّين يتداولون ألفاظ القتل والذبح في ما بينهم".
وتشير إلى أنها توجّهت برسائل إلى جهات حكوميّة مختصة، طالبت من خلالها بإعداد برامج لتأهيل الأطفال نفسياً. وتحمّل، العبادي، العائلة نصف المسؤوليّة في حين تحمّل النصف الآخر للحكومة والمدرسة. وتوضح أن العائلات العراقيّة غير مبالية في ما يتعلق بالحديث عن القتل والجثث أمام أطفالها. وهي لا تنتبه إلى تأثير مشاهد القتل التي تبثها وسائل الإعلام على الصغار. أما الحكومة بحسب ما تضيف العبادي، فهي "لا تعير أيّ أهميّة للمسـألة".
ويلفت عبد الصاحب، إلى أن جميع جرائم القتل تلك، تُنسب إلى مجهول. لكنه لا ينكر وجود يد للمليشيات الطائفيّة فيها. ويخبر أنه "في بعض الأحيان يدلي مواطنون بشهادتهم قائلين إن عناصر مسلحة من المليشيات رمت جثّة مثلاً وغادرت المكان". يضيف أن عمله مع زملائه يقتصر على نقل الجثث، من دون أيّ اهتمام بمطاردة سيارات المسلحين إذا ما شاهدوهم يقتلون شخصاً ما، أو يلقون جثّة ما على قارعة طريق. ويبرّر ذلك بالقول "نعرف أن مصيرنا سيكون كمصير القتلى. فالميليشيات لديها نفوذ واسع وسلطة تفوق سلطتنا".