صاح الخليفة عمر بن الخطاب "يا سارية الجبل الجبل"، وتصرخ نخب كثيرة في الجزائر منذ سنوات: الجنوب الجنوب.
لم تكن أحداث تين زواتين واحتجاجات ورقلة وتيمياوين أقصى الجنوب الجزائري الأخيرة إلا لقطة تضيف بطاقة حمراء أخرى للقائمين على السلطة إزاء مشكلات الجنوب، وسكان الهامش على الحدود. ففي غمرة أحداث كثيرة، انشغل الجزائريون مطولاً بالنقاش حول مطالب ثقافية لمنطقة، وتناسوا أخرى أكثر حساسية. وفي غمرة التناسي كانت المسافة بين التنمية والتهميش تتباعد أكثر، فيما المسافة بين الفقر والغبن الاجتماعي، والتوترات والتهريب والإرهاب، تقترب أكثر.
لم يختر الجزائريون قدر الجغرافيا وجيرانهم في الجنوب، مالي وتشاد والنيجر وموريتانيا، وهي دول على درجة من الهشاشة، ما يتيح مساحة كبيرة لشبكات التهريب والمخدرات والجريمة والإرهاب. لكن من حسن الحظ أن لديهم أفضلية الخيار في الكيفية التي يريدون بها جنوبهم، ولهم دائماً الاختيار بين واحد تأتي منه كل الشرور التي توجع أمن الجزائر وتستنزف اقتصادها، وبين جنوب يأتي منه كل الخير ويمكن أن يتطور إلى قاعدة اقتصادية حقيقية خلاقة للثروة وتستوعب اليد العاملة، في قطاعات الزراعة والصناعة، والسياحة التي لم تكتشف بعد في الجنوب.
تتجاوز الأهمية الاستراتيجية للجنوب الجزائري والمدن الكبرى على الحدود كل أهمية أخرى، ذلك أن مدناً فيه يمكن أن تكون عواصم مؤثرة ومتحكمة في سيرورة كامل منطقة الساحل وغرب أفريقيا، بحكم الامتداد والعلاقات الثقافية والمجتمعية. ويمكن عبر النظر إلى الخريطة الحصول على فكرة عن هذه الأهمية، إذ إن مدينة، مثل عين قزام الحدودية، أقرب إلى 17 عاصمة دولة أفريقية من العاصمة الجزائرية، ويمكن تصور الحال لو كنت عين قزام أو تمنراست مثلاً، مدناً جاهزة للحيوية الاقتصادية، ومراكز ثقافية إقليمية تستوعب الثقافات المحلية وتصدر قيمها للعالم.
لا بد، وقد بلغت قلوب سكان الجنوب الجزائري الحناجر، من إعادة الاعتبار لمناطق الجنوب والحدود ضمن خطة تنمية واضحة تخرجها من المنظور الأمني إلى بعد اقتصادي وسياسي وثقافي. ولن يخلق الجزائريون المعجزة إن فعلوا، لأن مدناً خليجية في الصحراء لم تكن شيئاً وصارت. ومن المهم الانتباه اليوم أن الجنوب لم يعد "النخلة والخيمة والجمل"، فثمة جيل جديد أصبح أكثر تواصلاً مع الشمال والعالم واطلاعاً على مكامن الثروة والإخفاق، وأكثر قدرة على قراءة السياسات، والتمييز بين ما هو ضروري وما هو تهميش، ولم تعد له قابلية للإقرار بالأمر الواقع في منطقة يُدر نفطها مالاً كثيراً على خزينة البلد ولا يدر على سكانها إلا القليل. وقد تشكلت نخب محلية مؤثرة اعتنقت الروح النقدية، وانخرطت في المنتظم المدني والسياسي، وتجاوزت المؤسسات العرفية، ومجتمع الأعيان الذين كان يتماهى مع سياسات السلطة.
صحيح أن شبكات التهريب والجريمة والإرهاب وجدت لنفسها موطئ قدم في الجنوب، لسبب مركزي هو ضعف حاصل التنمية وفراغ العمران البشري والجغرافيا. ومتى أعطيت لمناطق الجنوب حيوية اقتصادية كلما كانت الحركة السكانية أكبر، وضاق المجال على الشبكات المارقة ونقصت الحاجة للمجهود وكلفة التدبير الأمني في هذه المناطق. وطبعاً لن يكون للتدبير الأمني معنى دون وفاق خالص بين مكوني السكان والأمن، لأن الضربة التي قد توجع الجزائر مستقبلاً قد تأتي في الخاصرة الجنوبية، فهي حلم قديم للاستعماريين.