تفجّرت الأوضاع مجدداً في مدن جنوبي الجزائر، عقب اندلاع مواجهات عنيفة بين الشرطة والسكان المحتجين على الظروف المعيشية، أدت إلى مقتل شابين اعترفت السلطات الجزائرية بمقتلهما، وتجري تحقيقات لمعرفة ملابسات وفاتهما خلال المواجهات العنيفة.
وفي محاولة من الحكومة لتهدئة الأوضاع، أوفدت وزير الداخلية الطيب بلعيز والمدير العام للأمن الوطني اللواء عبد الغني هامل، للوقوف على الأوضاع ومناقشة مطالب السكان المتعلقة بالعمل والسكن والتزوّد بالمياه الصالحة للشرب.
واجتمع وزير الداخلية مع أعيان المنطقة في مطار تقرت، بمشاركة المدير العام للأمن الوطني وممثلين عن السلطات المحلية، إضافة إلى أعيان المدينة الذين قدّموا خطة للوزير لتهدئة الأوضاع في المنطقة، فيما تم تشريح جثتي الضحيتين اللتين سقطتا في مواجهات السبت لمعرفة ظروف وملابسات مقتلهما.
وذكر بيان لوزارة الداخلية الجزائرية أن الشابين هما تومي مفتاح (24 عاماً) ونور الدين مالكي (20 عاماً).
وعاد الهدوء إلى مدينة تقرت، لكنه هدوء حذر، إذ ما زالت حدة الغضب الشعبي متصاعدة في المدينة، بانتظار ما ستفسر عنه اجتماعات وزير الداخلية مع أعيان المدينة وممثلي المجتمع المدني، في مقابل تشديد أمني خصوصاً على المؤسسات العامة والمراكز الحيوية.
وتعليقاً على الأحداث، دانت الجبهة الوطنية لمكافحة الفساد، ما اعتبرته تدخلاً غير مبرر لقوات الأمن والشركة ضد "محتجين سلميين خرجوا للشارع تنديداً بتجاهل السلطات لمطالبهم الاجتماعية".
وحذّر رئيس الجبهة رشي عوين في حديث لـ "العربي الجديد"، مما اعتبره "مخاطر انفجار اجتماعي في مدن الجنوب، تتحمّل السلطة المسؤولية عنه، بسبب لجوئها السريع إلى خيار الحل الأمني لمعالجة مشكلات اجتماعية، عوضاً عن فتح حوار مع المحتجين وسماع هموم السكان والشباب العاطلين عن العمل خصوصاً".
وهذه ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مدن جنوبي الجزائر في قلب الصحراء احتجاجات عنيفة، فخلال الأشهر الأخيرة بدأت حدة الاحتجاجات الاجتماعية تتصاعد بفعل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي يعانيها سكان مدن الجنوب، كتمنراست وبسكرة والأغواط وورقلة، وهذه الأخيرة شهدت أكبر الاحتجاجات من قِبل الشباب العاطلين عن العمل، الذين قاموا باحتجاز شاحنات نقل الوقود، والتهديد بتفجيرها، للمطالبة بحقهم في العمل في شركات النفط الجزائرية والأجنبية العاملة في حقول النفط في المنطقة.
لكن أحداث عنف أخرى في مدن الجنوب، أخذت أبعاداً خطيرة، كالتي شهدتها مدينة غرداية على خلفية نزاع مذهبي وعرقي بين العرب الذين يتبعون المذهب المالكي، والسكان الأمازيغ الذين يتبعون المذهب الإباضي، وهي الأحداث التي أعطت مؤشراً على تراجع هيبة الدولة مقابل الانقسامات العرقية والمذهبية، إضافة إلى المشاكل الاجتماعية والظروف المعيشية.
وليست الظروف المعيشية وحدها ما يخلق مشاكل مدن الصحراء الجزائرية الغنية بالنفط والغاز، ففي العقد الأخير بات هناك شعور لدى السكان المحليين بتقصير السلطات في التكفل بحاجاتهم ومعالجة مشاكلهم.
لكن الشعور الأكثر قسوة، والذي يحرّك في الغالب سكان مناطق الجنوب، هو ذلك الفارق في البنى التحتية وخدمات الصحة والتربية والتعليم والنقل مقارنة مع مدن الشمال التي تستفرد بالجزء الأكبر من هذه المزايا، وخصوصاً أن أغلب عائدات البلد من المال العام، تأتي من مبيعات النفط والغاز الذي يجري تحت رمال مدن الجنوب، من دون أن يستفيد سكان هذه المدن بالشكل الكافي من هذه العائدات.
غير أن السلطات الجزائرية تلجأ في العادة إلى أسلوبين في التعاطي مع هذه المطالب والاحتجاجات المحلية، إما أسلوب المعالجة الأمنية، وهو ما يؤزم الأوضاع في العادة ويزيد من حدة التباين في المواقف بين السلطات والسكان، وإما تعليق الوضع على شماعة اليد الأجنبية والمؤامرة التي تُحاك ضد الجزائر في منطقة الجنوب، وهو ما يُفهم في الغالب من تصريحات المسؤولين السياسيين في الجزائر.
لكن المعارضة السياسية في الجزائر لا تعبأ بمبررات السلطة، وتعتقد أن الأخيرة تمارس سياسة الهروب إلى الأمام، بدلاً من مواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في مدن الجنوب.
ويرى المتحدث باسم حركة "النهضة" المعارضة محمد حديبي في حديث لـ "العربي الجديد"، أن السلطة فشلت في احتواء الاحتجاجات في الجنوب، بسبب سوء قراءة الواقع الاجتماعي، والتستر وراء ادعاء المؤامرة واليد الأجنبية، بدلاً من مواجهة المشاكل الاجتماعية والتكفل بهموم السكان.
ويلفت حديبي إلى أن تجاهل السلطة للأزمات الحقيقية في مدن الجنوب يزيد من خلخلة النسيج الاجتماعي، مشيراً إلى أن المخاطر المتصلة باحتجاجات سكان الجنوب تتزايد، خصوصاً مع الوضع المتوتر في دول الساحل القريبة من الحدود الجنوبية للجزائر كالنيجر وموريتانيا.
ويبدو أن أزمات الجزائر مستمرة، فلا تهدأ الأوضاع في الشمال مع الحركات الاحتجاجية حتى تندلع أخرى في الجنوب، فيما ما زالت مقاربة السلطة تستند إلى المراوحة بين الحل الأمني وعصا رجال الشرطة الذين كانوا هم أنفسهم في حركة احتجاجية قبل شهر، وبين استعمال الريع النفطي في شراء السلم الاجتماعي، عدا ذلك لا تفعل السلطة حسناً لحلحلة أزمات البلاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أيضاً.