المسافة بين العاصمة المركزية وورقلة، عاصمة النفط في الجزائر لا تزيد عن 600 كيلومتر، لكن المسافة الحضارية بين المركز والهامش، في علاقة بالبنية التحتية والخدمات والمستويات المعيشية والتنمية البشرية والصحة والتعليم، أكبر من ذلك بكثير، وتكشف بوضوح أسباب الحراك الاحتجاجي الذي تشهده مناطق ورقلة ووادي سوف وبشار والجلفة في الجنوب الجزائري أخيراً، احتجاجاً على البطالة والسكن والماء والكهرباء والبنية التحتية والصرف العبثي للمال العام.
تبلغ مساحة ورقلة أكثر من 211 ألف كيلومتر مربع، وتوفر، بالإضافة إلى ثلاث ولايات أخرى، للجزائر أكثر من 92 في المائة من إجمالي المداخيل العامة للبلاد، والتي تعتمد كلياً على عائدات النفط والغاز. لكن المدينة، التي يجري من تحت رمالها النفط كما كل مدن الجنوب، تعيش على تناقض صارخ بين كونها عاصمة النفط، وكونها مدينة بائسة ما زالت تعيش على وقع انقطاعات للكهرباء وتوزيع المياه في الصهاريج، فيما يضطر المرضى للانتقال إلى الشمال أو السفر إلى تونس للعلاج. ولا يستثنى التعليم من هذا التناقض. فعندما تحقق العاصمة الجزائرية نسبة نجاح في امتحانات البكالوريا بلغت 68 في المائة، تتدنى نسبة النجاح في ورقلة ومدن الهامش الجنوبي إلى أقل من ذلك بكثير، إذ سجلت 45 في المائة في ورقلة و43 في المائة في الوادي و37 في المائة في الجلفة، بسبب فارق الإمكانات المتاحة.
لم يكن جديراً برئيس الحكومة الجزائرية، أحمد أويحيى، وصف الاحتجاجات السلمية الأخيرة لسكان الجنوب بأنها "شغب وفوضى"، لأن الشغب الحقيقي هو في استنزاف ثروات الجنوب من دون أن ينعكس ذلك على حياة السكان، ولأن الفوضى الحقيقية هي في فشل التدبير المركزي لشؤون منطقة الجنوب الغني بالنفط والغاز والتمور والخضروات والسياحة أيضاً، والذي أوصل المنطقة برمتها إلى الأوضاع المعيشية والبنية التحتية المتردية، ودفع الجنوب المفتوح على حدود شاسعة مع مالي والنيجر وتشاد وموريتانيا وتونس وليبيا إلى الوقوع بين مخالب التحالف المقدس للفقر والإرهاب وشبكات التهريب.
ومثلما للثلج كرات تكبر، فللرمال عواصف تكبر أيضاً. لا تريد الحكومة، التي تضخم عقلها الأمني مع تضخم عدد الشرطة والدرك، أن تشعر بأن الرمال تتحرك في الجنوب، وأن الجنوب المستكين لسياسات المركز انتهى، وأنه يتحول شيئاً فشيئاً إلى حالة مطلبية، بل إنها لا تريد أن تقتنع بأن الديموغرافيا والهندسة البشرية للجنوب أفرزتا جيلاً جديداً ومتمرداً، قطع مع حالة القبول بالأمر الواقع وتضخم طموحه وتسلح بالإعلام الشعبي ولديه القدرة على تدبير الأدوات النضالية إلى حد الابتكار وصياغة الشعارات والمطالب. ثمة لقطة تختصر تفكير المركز السياسي في الجزائر في مناطق الجنوب، التي تمثل 72 في المائة من إجمالي مساحة البلاد، إذ تتحدث المذيعة في نشرات الأحوال الجوية في التلفزيون عن مناطق الساحل والشمال حيث المركز السياسي والاقتصادي والثقافي، وتصف باقي المناطق الشاسعة بـ"بقية الوطن". الحكومة في الجزائر تفكر مثل مذيعة التلفزيون تماماً.