حرب العصابات في الأحياء الشعبية في الجزائر هي نموذج مُصّغر لحرب العُصَب الكبيرة في السلطة. الرئيس عبد المجيد تبون وجّه الحكومة إلى إنهاء حرب العصابات، لكن المطلوب الذي يتطلع إليه الجزائريون، إثر ثورة شعبية لم تُكمل مسارها بعد، يتمثل في إنهاء حرب العصب في السلطة ومراكز القوى، التي تتلاعب بالاستحقاقات المصيرية للبلاد ومطامح الجزائريين.
كتبت صحيفة جزائرية قبل أيام عن فساد أبناء قائد الجيش الراحل أحمد قايد صالح. أيُّ شخص يتردد على مقهى في ساحة الكور وسط مدينة عنابة (مدينة إقامتهم) كان يعلم بفساد أبناء قائد الجيش قبل أن تُخبر الصحافة به، الحراك الشعبي نفسه أعلنه، وطالب قبل سنة بالمحاسبة، لكن ذلك تزامن مع حصاد لرؤوس من القيادات العسكرية والأمنية التي كانت تسند ظهر قائد الجيش الراحل، ما يجعل الأمر أكبر من قضية فساد.
كان العام الماضي عام حصاد رؤوس ورموز كتلة من العسكر وقادة الأجهزة الأمنية على يد قائد الجيش الراحل. شاهد الجزائريون أقوى رجلين حكما البلاد قبل 20 سنة، قائد جهاز الاستخبارات وشقيق عبد العزيز بوتفليقة مقيدين، ويساقان مع آخرين إلى المحاكمة والسجن. الآن يحدث الأمر في الاتجاه المعاكس، تمظهراً وتجلياً لصراع جديد قديم داخل مفاصل السلطة، كل كتلة استوى أمر الحكم لها أو التوازنات لصالحها، تبعث برجال كتلة أخرى إلى الجحيم، يأتي دور الصحافة لاحقاً كجزء ضروري من لعبة الأبيض والأسود.
ما يحدث الآن في العلن أو الكواليس، هو جزء من هذا الصراع المستمر بين المجموعات الحاكمة في الجزائر منذ 60 سنة، يمثل المال والمصالح والهيمنة والسلطة والنفوذ السبب الأساسي، بينما تدخل عناوين المشاريع والخيارات السياسية كعاملٍ هامشي، يقدم ذلك حقيقة واحدة، هي أن المشكلات المعرقلة للإصلاح السياسي في الجزائر والمعيقة للتطور الاقتصادي والاجتماعي، إنما الأصل فيها هو تمركز العسكر في قلب كل مرحلة، ولذلك انتبه الحراك الشعبي إلى هذه الحقيقة واتخذ منها عنواناً مركزياً: "دولة مدنية، وليس عسكرية".
لا يقصد بذلك الإساءة للمؤسسة العسكرية وللجيش كعمود حيوي في الدولة، على العكس من ذلك تماماً، استبعاد الجيش من الصراعات والاستخدام السياسي في كل مرحلة يعفيه من المسؤولية عن الخيارات الخاطئة التي فرضت على البلاد، ويريحه من استنزاف وترذيل صورته تاريخياً. لا توجد إساءة إلى الجيش أكثر من أن تمتلئ الصحف والقنوات بأخبار القيادات العسكرية الفاسدة التي تستغل نفوذها للثراء غير مشروع والاستيلاء على مقدرات الشعب والبلد، وبانكشاف سريع لزيف خطاب الطهارة وتوظيف القضاء، وهو فساد أيضاً، لمحاربة فساد آخر.
لم يعد لإخفاء الحقائق أي معنى في الجزائر. لا يجب أن تتيح الثورة الشعبية للعصب المتحاربة داخل الجيش أو في الهوامش، فرصة تحويل المعركة الحقيقية. لا يجب أن يتراجع الجزائريون عن المطلب الديمقراطي للخلاص من كل العصب والعصابات، سواء تلك التي قادت البلد إلى نكبة التسعينيات الدامية، أو تلك التي تحالفت مع شبكات الفساد في العقدين الماضيين، أو التي أعاقت الثورة الشعبية عن طموح التغيير والإصلاح.