لم تعرف الجزائر أحداث عنف أدّت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى بعد العشرية السوداء، مثلما عرفتها محافظة غرداية جنوبي البلاد قبل عامين من الآن. فقد شهدت المنطقة مواجهات استعملت فيها الأسلحة البيضاء والحجارة وحتى بنادق الصيد وقاذفات المعادن، واستدعت الأحداث تدخّل رجال الحكومة والأمن والأئمة والأعيان لفضّ النزاع على مدار أشهر، وأعيد سبب التناحر حينها إلى صراع "طائفي" بين أتباع المذهبين المالكي والإباضي، ووجّه وزير الشؤون الدّينية والأوقاف محمد عيسى أصابع الاتهام إلى أشخاص "مشبعين بالفكر السّلفي المتطرّف"، على حدّ تعبيره.
لم يكن تصريح محمد عيسى خطاباً ظرفياً تزامن مع الحادثة، فقد عرف العقد الأخير في الجزائر، مع مجيء الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ما يُسمّى بـ "الحرب" على التيّار السلفي، والحديث عن مشروع الحفاظ على "المرجعية الدينية" الجزائرية ممثلة في التيّار الصوفي الذي تتبنّاه السلطة. هذه المواجهات بدأت تطفو إلى السطح مع مجيء الوزير محمد عيسى علي الذي سنّ في أكثر من مناسبة، هجوما على الأئمة الذين يروّجون للتيّار السّلفي في المساجد بحجّة أنها تدعو إلى التطرّف.
قبل أربع سنوات تقريباً؛ رفض ثلاثة أئمة الوقوف للنشيد الوطني في احتفالات عيد الثورة، وقامت وزارة الشؤون الدينية بتوقيف هؤلاء الأئمة تحفظياً بسبب ما سمته الانتماء للتيارات السلفية. وأطلق حينها شيخ المرجعية السّلفية في الجزائر، الشيخ فركوس، فتوى تعاطف فيها مع الأئمة الموقوفين، اعتبر فيها أن الوقوف للعلم الوطني مظهر من مظاهر "الوثنية" التي تمسّ بعقيدة التوحيد على حدّ قوله، وكانت هذه الحادثة من أهم الأسباب التي أدّت بوزارة الشؤون الدينية إلى الخروج عن صمتها اتجاه ما يحدث حولها.
صراعات دينية
الخطاب الذي تبنّته السلطة ضد السلفيين، تجسّد بمرافقة مالية وإعلامية للمذهب الصوفي في الجزائر ولمشايخه، وتجلّى هذا الاهتمام في تنظيم التظاهرات الثقافية، وترميم الأضرحة والشواهد والمخطوطات، وأدرجت المذاهب الصوفية في الدراسات الأكاديمية والتخصصّات الجامعية، وأصبحت تحظى بتنظيم الملتقيات والأيام الدراسية، وهذا بعد الاضطهاد الذي عانى منه أتباع هذا المذهب في سبعينيات القرن الماضي، والذي عرف إغلاق الكثير من الزوايا وتأميم ممتلكاتها وإدخال مشايخها ورموزها السجن بتهمة "ممارسات خارجة الإسلام".
وتبيّن أن هذا الاهتمام بالصوفية في الجزائر له خلفية "انتقامية" أكثر منها عقائدية، تجسدت في ما بعد بتوّجه الأكاديميين والباحثين في الصوفية، إلى مهاجمة المذاهب السنية، واتهامها بالتطرّف والعنف في دراستهم وبحوثهم الجامعية والملتقيات العلمية؛ ما فتح الباب للحديث عن "تطرّف" من نوع آخر، لا تستعمل فيه السيوف والخناجر والمتفجرّات.
التطرّف والاستعمار
الصراع بين المذهبين الصوفي والسلفي، صراع تقليدي يمتد إلى عهد الاستعمار الفرنسي، مع ظهور جمعية العلماء المسلمين بقيادة رجل الإصلاح الديني عبد الحميد بن باديس، الذي حارب الأفكار الصوفية التي تدعو إلى مهادنة الاستعمار والتسليم بأنه قضاء وقدر، وأن محاربة قضاء الله "كفر" حسب زعمهم، وكان الاستعمار يستغل بعض شيوخ الصوفية والزوايا للترويج إلى أفكاره الاستبدادية للقضاء على فكرة الثورة، الأمر الذي دفع بعبد الحميد بن باديس "السلفي" كما كان يوقّع في خطاباته، إلى معارضة الصوفيين في ما ذهبوا إليه؛ ما أدى إلى تعرّضه إلى محاولات اغتيال من طرفهم حسب كثير من المصادر التاريخية.
مساجد مقننة
مسألة الانتماء إلى التيّار السلفي لم تكن مشكلة مطروحة في السنوات الأخيرة الماضية؛ ما أدى إلى ظهور الأئمة السلفيين على منابر خطب الجمعة في كثير من المساجد تحت غطاء "التطوّع"، وأدى ذلك إلى تمرّد الخطاب الديني عن التوجيهات السياسية التي كان يتلقاها أئمة المساجد، ما دفع بالوزارة الوصيّة إلى اتخاذ عدة إجراءات، تمثلت في منع التطوّع لإمامة المساجد، وتقنين خطب الجمعة، ومنع الحلقات والتجمعات، وتحديد مواقيت إغلاق المساجد وفتحها، وحتى منع بعض المساجد من إقامة صلاة الجمعة والأعياد الدينية ، وأصبحت مواضيع خطب الجمعة لا تخرج عن سياقات الدعوة إلى الأمن والاستقرار، وعدم المساس بأمن الدولة، و"تحريم "الاحتجاج في الشارع، وهو الطرح الذي تزامن مع الثورات العربية، أو ما عرف في الجزائر بـ"احتجاجات الزيت والسكّر".
السياسة والدين
ما يُعرف عن التيّار السّلفي في الجزائر، أنه تيّار ديني يبتعد منتهجوه عن المشاركة السياسة في الحكم بحجّة "تحريم" التحزّب لأنه يكرّس حسبهم فكرة التفرقة بين أفراد المجتمع، وهو أمر لم يكن يقلق السّلطة خاصة بعد عودة الاستقرار إلى الحياة اليومية، غير أنّ ظهور الداعية عبد الفتاح حمداش أزال هذه الفكرة لدى شريحة من المنتمين إلى المذهب السّلفي بإعلانه دخول معترك السياسة بحزب "الصحوة الإسلامية"، وتقدّمه بطلب إلى وزارة الداخلية من أجل اعتماد حزبه السياسي، ولكن قوبل طلبه بالرفض الضّمني، بعد تماطل وزارة الدّاخلية في الاستجابة إلى طلبه لعدة أشهر، دفعه ذلك لسحب طلب اعتماد الحزب، واكتمل المشهد بالحصّار الإعلامي الذي فرضته السّلطة على نشاطاته وحظر مقابلاته التلفزيونية.
دعوات قتل
كان أبرز الفتاوى التي أطلقها حمداش في الشارع الجزائري، هي الدعوة إلى إعدام الروائي الجزائري كمال داود بتهمة إهانة "الذات الإلهية" في أعماله الأدبية، وهي دعوة ساهمت في شهرة هذا الكاتب الذي لم يكن معروفاً في الوسط الأدبي الجزائري، وحظي بترحيب واسع من طرف الإعلام الفرنسي. هذه الدعوة تضاف إلى قائمة طويلة من الدعوات، كان أبرزها؛ تحريم الاحتفال بـ "عيد الحبّ" ومداهماته الموثقة بالفيديو ضدّ عدد من محلات بيع الشكولاته في العاصمة، إضافة إلى مشاركته في كسر أقفال كانت تعلق على جسر تيليملي بالعاصمة، عرف بـ"جسر العشّاق".
السّلطة في الجزائر حاولت في الآونة الأخيرة من خلال خطابها الرّسمي، ربط المدّ السلفي الوهابي بما حدث في الجزائر خلال العشرية السوداء، في شكل تحذيرات من العودة إلى "سنوات الدّم". هذا الخطاب أخرج بعض السلفيين إلى الشارع لأّوّل مرة احتجاجاً على المواقف. وفسّر بعضهم تصريحات الوزير بأنها تندرج ضمن سياقات جسّ النبض ومعرفة حدود انتشار هذا التيّار وتأثيره في المجتمع.
المساجد والمدارس القرآنية وحتى دور الحضانة، لم تكن أبداً بعيدة عن الصراعات الدينية، فقد بات أمر فتح مداس قرآنية تحت غطاء الجمعيات أمراً مقلقاً لوزارة الشؤون الدينية، فاتخذت لذلك عدة إجراءات، منها إنشاء مدارس بقرار يوقعه وزير الشؤون الدينية شخصياً، وتكليف جهاز التفتيش بإعداد تقارير حول هذه المدارس، ومنح رخص قصيرة المدى لمدرسي القرآن لا تتجاوز ثلاثة أشهر، مع إبقائهم تحت الرّقابة المشددة باعتراف وزير الشؤون الدينية.
من جهة أخرى، أصدرت وزارة التربية والتعليم، قراراً يمنع مدرّسات القرآن من العمل في دور الحضانة بحجّة نقص التكوين، وهي خطوة وضعت وزيرة التربية نورية بن غبريط على خطّ المواجهة مع الأئمة ورجال الدين، وتعززّ هذا "العداء" بدعوتها إلى حذف آيات قرآنية من المقرّرات الدراسية لتلاميذ الأطوار الابتدائية، وتمّ تفسير هذه الإجراءات من طرف بعض المنتقدين، بأن الخطاب الرّسمي في الجزائر، أصبح يصنّف المؤسسات الدينية كبؤر للتطرّف الديني وحواضن يتخرّج منها الإرهابيون.