في بُعدها السياسي، هي محاكمة لكامل نظام عبد العزيز بوتفليقة وإدانة لسياساته وخياراته الخاطئة التي أوصلت الجزائر إلى كارثة محدقة، تلك المحاكمة المثيرة لرموز حكمه في قضايا فساد، وتلك الأرقام الصادمة لحجم التلاعب بالمال العام، والتي كشفت أن الحكم الفردي الذي ابتليت به معظم بلداننا العربية هو أقبح ما يمكن أن تُحكم به الشعوب وتنهب مقدراتها.
صحيح أن اللائحة الجنائية لهذه المحاكمة تشمل أسماء محددة بصفاتهم وُجّهت لهم تهم محددة، مثل رئيسي الحكومة السابقين عبد المالك سلال وأحمد أويحيى وغيرهما من الوزراء وأعضاء الكارتل المالي، لكن للمحاكمة لائحة أسماء أخرى تضم شخصيات وتنظيمات ومجموعات سياسية وأحزاباً بعينها ورموزها معنية هي أيضاً بالإدانة الأخلاقية، تلك التي استفادت من نظام بوتفليقة، ووفّرت للنظام السند السياسي وساعدته في فتح الولايات الرئاسية بتعديل الدستور عام 2008، للبقاء في الحكم، والتي انخرطت أيضاً في الدعوة لترشحه وانتخابه لولاية رئاسية خامسة، لولا ألطاف الله والحراك الشعبي الذي قرر تغيير حركة التاريخ، وقال لا.
ليس ذلك فقط، فالمؤسسات الحيوية في البلد، أيضاً، تنسحب عليها الإدانة الأخلاقية والسياسية عن هذا الفساد والعبث الذي أنهك البلاد وأهدر الزمن وضيّع على الجزائر فرصة انطلاق حقيقي، تلك المؤسسات التي ظلت راعية لنظام بوتفليقة وساندت حكمه، وكانت قياداتها تتحدث عن "منجزاته التي لا ينكرها إلا جاحد"، مثلما كان يقول قائد أركان الجيش، وقد رأى الجزائريون تلك المنجزات في المحكمة.
صحيح أن المحاكمة تخص أفراداً بأسمائهم وصفاتهم، لكن لائحة المدانين أخلاقياً ضمنها تشمل كذلك الكيانات المدنية والماكينات الإعلامية التي وضعت نفسها في خدمة هذا النظام العابث، واستخدمت حيزها لتبرير سياساته، وبذلت جهداً خرافياً في ممارسة التضليل على الجزائريين، وسعت لإقناعهم "برجل الإجماع وحكمته الفارقة" وضرورته الوجودية للجزائر، بدل أن تساعد في توسيع هامش الوعي وزرع الروح النقدية.
عندما بدأ الحراك الشعبي في فبراير/شباط الماضي، كان سقف الطموح الديمقراطي للجزائريين لا يتوقف عند إحباط مشروع الولاية الرئاسية الخامسة، وإنما يمتد إلى تأسيس توافقي لمسار ديمقراطي مشترك يتشارك الجزائريون في وضع أسسه، منعاً لتكرار أخطاء المراحل التاريخية السابقة التي كان النظام ينفرد فيها بصنع الأزمة وفرض الحل أيضاً.
سيلاحظ الجزائريون أن السلطة، ودونما مسافة مراجعة، تقرأ من الكتاب نفسه، وتعيد فرض الرؤية المنفردة نفسها وإنتاج أبعاد الصورة نفسها، حين تضغط باتجاه مسار غير توافقي، وتذهب بالبلاد إلى انتخابات قسمت الجزائر إلى نصفين أفقياً وعمودياً، شعبياً وسياسياً، تستخدم اللغة السياسية نفسها ضد المعارضين (تهم الارتزاق والعمالة) وتعتمد الأدوات نفسها حين تستخدم، لدعم المسار الجديد، المجموعات التي كانت متواطئة سياسياً وشريكة أخلاقياً مع نظام بوتفليقة والنهايات العبثية التي آلت إليها البلاد.