بات عدد كبير من كبار قادة المؤسسة الأمنية من الاستخبارات والأمن العام في السجن، مع إدانة ثلاثة منهم الأسبوع الماضي، بتهمٍ تُعارض مهامهم بعد أن كانوا مسؤولين عن أمن وسلامة الجزائر والجزائريين، وصنّاع السياسات الأمنية في البلاد. وهنا دائماً ما يُطرح السؤال حول صمت المخابرات والأجهزة الأمنية حول تفشي الفساد طيلة العقود الماضية. مع العلم أن السؤال يصبح بلا معنى، عندما يتضح أن قادة هذه الأجهزة وصنّاع السياسات الأمنية نفسهم كانوا جزءاً من شبكات الفساد السياسي والمالي. الأسبوع الماضي أدين مدير جهاز الأمن الداخلي (المخابرات) الجنرال واسيني بوعزة بالتزوير وتهم أخرى، ومدير الأمن العام عبد الغني هامل، بالثراء غير مشروع، ومدير جهاز الاستعلامات، نور الدين براشدي.
المؤلم أن شبكات الفساد نفسها نجحت في استخدام المؤسسة الأمنية، وهذه الحقيقة تثبتها التحقيقات القضائية ووقائع المحاكمات الجارية، في الفترة التي كانت فيها الأجهزة في خدمة الكارتل المالي، وكان يمكن لأي رجل من الكارتل أن يستخدم علاقته بالفاعل الأمني لملاحقة خصومه والحصول على ما يمكن أن يستخدم في حروب المال. كما أن حجم التسريبات الأمنية التي كانت تتم من الداخل على وسائل التواصل الاجتماعي كانت تؤشر إلى وجود تصفيات مصالح على حساب مصلحة البلد.
وفي مرحلة ما وضعت المؤسسة الأمنية في الجزائر نفسها فوق القانون والقضاء والمؤسسة السياسية أيضاً، في أحسن الأحوال كان يحدث تبادل مصالح بين السلطة السياسية والأجهزة الأمنية، وهنا تكمن المشكلة التي أسست لانحراف الرؤوس المؤسسة والمنفذة للسياسات الأمنية، وهذه الانحرافات انسحبت في النهاية على الأجهزة أفقياً وعمودياً وأدائها وأضرت في العمق بمصداقيتها.
في دولة مثل الجزائر، حيث تغيب الثوابت المحددة لسياسة الدولة ويضمحل مفهوم استمراريتها، وتتلاشى المؤسسات الضدية (الصحافة، البرلمان، الرقابة)، والنصوص القانونية بلا معنى، تُصبغ المؤسسات والهيئات كما الأجهزة الأمنية بلون المسؤول الأول فيها وتصبح رهينة لخياراته، لذلك تتعاظم المخاطر، خاصة أن انحراف المؤسسة الأمنية مضر أكثر من انحراف أية مؤسسة سياسية أخرى.
من هنا تستدعي الضرورات الملحة إنجاز إصلاح جدي للمؤسسة الأمنية يكون مرافقاً للإصلاحات السياسية والهيكلية للدولة والعلاقات الوظيفية بين مؤسساتها في الجزائر، ومن دون أي عقدة يجب أن يأخذ إصلاح المؤسسة الأمنية نصيبه من نقاش عميق ومسؤول حول "وظيفة" المؤسسة الأمنية بدلاً من "التوظيفية"، لحمايتها من الرهانات الذاتية والتجاذبات السياسية المتغيرة وربطها بثابت الدولة أولاً، ولوضعها تحت الرقابة السياسية والنيابية والقضاء ثانياً، لأنه لا يمكن الحديث عن إصلاح سياسي من دون إصلاح المؤسسة الأمنية وتثبيت طابعها الجمهوري الذي يفرض عليها الخدمة لمصلحة البلد وليس لمصلحة السلطة.