الجزائر والأزمة الليبية.. تجليات الخط الأحمر والأمن القومي
يمتعض بعضهم، في أثناء اللّقاءات الإعلامية، من ترديد مقولة أنّ الجزائر تقف على مسافة واحدة من فرقاء الأزمة الليبية، ويظن أنّ ذلك ترجمة للرؤية السلبية، غير القادرة على حسم الموقف، على غرار ما قامت به مصر، مثلا، زعموا، عندما أعلنت أنّها، الآن، تملك الشّرعية الدُّولية للتدخّل في ليبيا، إذا تمّ تجاوز خط سرت – الجفرة، أو ما تقوم به الإمارات من تمويل تدفّق الأسلحة، أو ترحيل المرتزقة للقتال في ليبيا، بل يذكرون، أيضا، أنّ أنقرة حزمت أمرها، وتساعد ليبيا عسكريا، للحفاظ على مصالح لها في شرق المتوسّط، على أثر توقيع تفاهماتٍ، بعضها أمني – دفاعي، وبعضها الآخر لترسيم الحدود البحرية.
تلك الحجج التي يرافع بها إعلاميو بعض القنوات، عندما تذكّرهم باستعداد الجزائر لبذل أقصى الجهد، قصد جمع الليبيين في الجزائر للتّفاوض، بدلا من لغة السّلاح والرّضوخ لمنطق الفاعلين الذين يريدون إيصال ليبيا إلى الصوملة أو، على أقلّ تقدير، تقسيمها بعد إرغامها على سيناريو النّفط مقابل الغذاء الذي أدخل العراق في أزمة إنسانية، دفع ثمنها زهاء مليونين من الضحايا. يضيفون، للتّدليل على أنّ ما يقولونه صحيح، أنّ منطق الحجج الجزائرية، في إدارة الأزمة، هو مجرد طنطنة دبلوماسية، غرضها، كما قال أحدُهم، التّغطية على مشكلات داخلية جزائرية، ليس إلا، بل يتحجّجون، من ناحية أخرى، بأنّ الجزائر تساوي، في منطقها هذا، بين اللادولة، في إشارة إلى ما يصفونها بمليشيات طرابلس، والدّولة التي يريدون بها كيانات بنغازي (الجيش وجزء من البرلمان).
مما يضمن الأمن القومي الجزائري، بصفة أكيدة، أن تبقى ليبيا موحدة، وألا تنخرط القبائل في حرب أهلية
نحتاج، للإجابة على كلّ تلك الحجج، إلى التّذكير بأنّ الجزائر تتقاسم مع ليبيا قرابة ألف كيلومتر من الحدود كما تتقاسم معها، نتيجة لذلك، مصير الاستقرار. وبالتالي، فإنّها في حاجة إلى موقف حقيقي، لا يلفّه أيّ لبس، قاعدته عدم التدخّل في شؤون الليبيين، بأيّ وسيلة كانت. وهذا يدفع، هنا، إلى شرح معاني مقولة أنّ الجزائر تقف على مسافة واحدة من الجميع في ليبيا، ومن ثم، نصل إلى المعنى الحقيقي للأمن القومي الجزائري وعلاقته بما يجري في ليبيا، منذ 2011.
عندما تقول الجزائر إنّها تقف على مسافة واحدة من الليبيين جميعهم، فهي، هنا، تذكّرهم بأنّها لم تنصر أحدا على أحد، كما أنّها حاولت التّواصل مع الجميع، بالرّغم من أنّها تعترف، على غرار العالم كله، إلاّ من شذّ من فاعلين في الجوار، الإقليم وفي العالم، بشرعية حكومة الوفاق الوطني من دون أن تنسى أنّ ثمّة جزءا من الشرعية متفرّقا بين قسمين من البرلمان اللّيبي، حيث بقيت متواصلة مع رئيس البرلمان في طبرق، عقيلة صالح، بل استقبلته في الجزائر، مرّات. كما زار مسؤولون في الحكومات المتعاقبة، في الجزائر، خصوصا منذ مجيء الرّئيس عبد المجيد تبّون، نهاية 2019، إلى سدة الحكم، طرابلس وبنغازي، بقصد الاستماع إلى وجهات نظر الليبيين، وتذكيرهم بوجوب الرّضوخ لمنطق السياسة، على الدّوام، لانتخاب مؤسّسات سياسية جديدة والاتفاق على دستور يرضى كلُّ الليبيين، وتكون ممثّلة لهم جميعا، في أقاليم البلاد الثلاثة، وفق توازن قبلي يشرفون على رسم معالمه، بعد إقرار نصّ عقد اجتماعي لدولة ليبية حديثة.
تنطلق الجزائر، في موقفها هذا، من منطلق معرفتها بأنثربولوجيا المجتمع الليبي القبلي، في المقام الأوّل، وهو مدخل هام استطاعت الجزائر أن تستوعبه، لتجعل منه فاعلا اجتماعيا يحفظ لليبيا وحدتها الحيوية بالنسبة للجزائر، وللمغرب العربي كلّه. وربما لا يدري الفاعلون الآخرون أنّ للجزائر ارتباطات اجتماعية وتاريخية مع المجتمع الليبي، تدفعها إلى القول إنّها أفضل من يعرف مكوناته ومكونات الدولة الليبية. وذلك كله من ركائز الزعم الجزائري، الموافق للواقع، أنها تحرص على مصالح ليبيا موحدة، وبارتباطات إقليمية ودولية في إطار السيادة والأمن، لها وللجوار والإقليم، على حدّ سواء.
للجزائر ارتباطات اجتماعية وتاريخية مع المجتمع الليبي، تدفعها إلى القول إنّها أفضل من يعرف مكوناته
وللتّدليل على قوّة الموقف الجزائري، في هذه النّقطة بالذّات، يمكن الرّجوع إلى تصريحات رئيس حكومة الوفاق، فائز السرّاج وعقيلة صالح، وكلاهما يؤكّدان، بملء الفم، أنّ السعي هو إلى الحلّ السياسي تماما، كما تذكّر بذلك فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، الولايات المتحدة وروسيا. وهؤلاء الفاعلون الحقيقيون المؤيدون للموقف الجزائري، لأنه الموقف الذي يحول دون الصوملة، أي تهديم الدّولة وإيجاد ظروف عدم الاستقرار التي تجلب للمنطقة بقايا الإرهاب، خصوصا أن ثمة ارتباطا جغرافيا مع منطقة السّاحل القريبة من الفشل، من جرّاء التّعامل الأمني - العسكري الفرنسي معها، منذ تدخّلها، في العام 2012، وتوالي الهزائم، سيما في الحدود بين مالي والنيجر وبوركينافاسو.
هناك حجّة مساواة الجزائر بين اللادولة، أي حكومة الوفاق الوطني، التي تحكم، من طرابلس، الغرب الليبي، وتحوز الشّرعية الدولية، وكياني بنغازي (خليفة حفتر وجزء من البرلمان)، وهي حجة ضعيفة، لأنّ في طرابلس سفارات أعضاء دائمين في مجلس الأمن، وكلهم يتعاملون مع حكومة السراج، ويعتبرونها فاعلا أساسيا في إطار الأزمة الليبية، ما دفعهم إلى دعوتها إلى مؤتمر برلين، وقبول أن يكون ممثل ليبيا في الأمم المتحدة من حكومة الوفاق، بل أن يخول لممثل السراج التحدث باسم الدولة الليبية، أخيرا، في اجتماع طارئ لجامعة الدول العربية، كان مخصصا للأزمة الليبية وللمعارك التي شهدت أخيرا توالي هزائم الماريشال حفتر، على الرغم من العتاد والمرتزقة وغيره مما استطاع فاعلون، بعينهم، توفير ذلك كله له.
يمكن الاحتجاج، أيضا، بأنّ منطق اللادولة الذي اضطلع فاعلون يناصرون، اليوم، حفتر، بنشره في لبوس الثورات المضادة، هو المنطق الذي يُراد لليبيا أن تدخل فيه، إذا تمّ تقسيمها أو استمرّ استفحالُ الأزمة وعسكرتها، بدلا من تمكين الجزائر، بمنطقها السياسي، من جمع الليبيين على طاولة واحدة، لرسم مسار حلّ سياسي يرسم مستقبل بلادهم، لتكون جسرا لبديل آخر لسورية واليمن وتجارب أخرى للربيع العربي، حاول هؤلاء إفشالها بشتى الوسائل، ومنها الحرب النفسية التي تشنُّ، بمثل تلك الحجج، ضدّ الجزائر ومبادراتها، لصنع مشهد آخر على حدودها، أي هي من تملك الشرعية في "التدخّل السّلمي"، لإبراز قدرة أحفاد عمر المختار على التغلّب على الحرب ومآلاتها، ودحر من يريد الاستحواذ على نفط ليبيا، سواء في آبارها المستغلّة أو في عرض البحر، في شرق المتوسّط، برسم حدودٍ بحريةٍ تكون ليبيا، بوضعها الحالي، الخاسر لثرواتها، هناك.
على الجزائر حسم موقفها بتهيئة الأجواء لحل سياسي سعت، بكل جهدها، إلى إقناع الأطراف الفاعلة في الشأن الليبي به
بالنسبة لإشكالية الأمن القومي الجزائري، هل يكمن تحقيقه في مناصرة جميع الليبيين والوقوف على مسافة واحدة منهم أو الانتصار لفصيل، دون آخر؟ الإجابة المنطقية، بعد إيراد الحجج السّابقة، هي عين الأمن القومي الجزائري الذي لا يمكن الحفاظ عليه، في ليبيا أو في السّاحل، ونحن نعيش منطق التدخل الأجنبي الذي ينخرط في صراعات مصلحية، ولا يريد لثنائية الأمن والسّيادة أن تكون قاطرةً للتنمية إلاّ بالعمل، من خلال العوامل الارتباطية التاريخية والاجتماعية، التي تقوّي الموقف الجزائري، لرسم معالم الحلول لمعضلات الأمن والاستقرار في غرب المتوسّط وفي المنطقة الساحلية – الصحراوية، كون هذه تشكّل العمق الاستراتيجي للأمن القومي الجزائري، وبعده الطبيعي الأمن القومي المغاربي، لتكون الحلول ليبية - ليبية، وفي إطار مغاربي، حصريا، من دون تمكين أي من الفاعلين الآخرين، أيّا كانت أشكال خطوطهم الحمراء، من اللّعب على أوتار الصراع وتفصيلاته، للوصول إلى تحقيق مآربهم التي ترفضها الجزائر، باسم كلّ ذلك كله، وتضع له خريطة طريق تناسب أمنها القومي بكل أبعاده، حقيقة لا مجازا، وهو عين المصلحة الخالصة، أيضا وعلى كلّ المستويات.
الإشكالية الأخرى التي تضمن الأمن القومي الجزائري، بصفة أكيدة، هي أن تبقى ليبيا موحدة، وألا تنخرط القبائل في حرب أهلية. كما يضمن ذلك الأمن القومي دخول الليبيين في مسار حوار/ تفاوض، ينتهي إلى حل الصراع وصنع سلام دائم، يكون مقدمة لدور قادم في إطار منظومة مغاربية، تؤسس لانبعاث الاتحاد التكاملي بمقوماتٍ تجعل من المغرب العربي فاعلا مستقبليا يملك إرادة قراراته، ويمنع انخراط فاعلين، من خارجه، ومن خارج عمقه الاستراتيجي، الممتد من غرب المتوسط إلى المنطقة الساحلية - الصحراوية، في قضاياه، كما يجري، حاليا، من بعض من ليس لهم مصلحة في ليبيا، إلاّ لتحقيق ما تم تجسيده في اليمن أو سورية، محاولة للإسهام في صنع مشهد الصوملة أو زوال الدولة، وما للأمر من تداعيات نراها، ماثلة، أمام أعيننا وعلى الأصعدة كافة.
الحلّ السياسي يخدم الجميع ويحول دون وجود صومال حقيقية على بعد أميال من الشواطئ الجنوبية للاتحاد الأوروبي
هذا ما يدعو الجزائر إلى حسم موقفها بتهيئة الأجواء لحل سياسي سعت، بكل جهدها، إلى إقناع الأطراف الفاعلة في الشأن الليبي، فرنسا وإيطاليا، إضافة إلى مصر وتونس، ولم تشأ أن تضع مرجعيات اتفاق الصخيرات ولا مخرجات مؤتمر برلين بعيدا عن تصورها للحل. ولكن، في ذلك كله، تؤكّد، دوما، على خطورة ما تقوم به من تمتعض من إدراك الجزائر صورة الحل، كما تمتعض من إمكانية أن تصل إلى إقناع الليبيين من المجيء إلى الجزائر، على أساس تصور لحل مستقبلي، قال عنه الرئيس تبّون إنّه ممكن التحقّق، إذا انتفى التدخّل السيئ، وتدفّق السلاح، وإذا شاعت، بين الجميع، مصلحة تجسيد الحلّ السياسي الذي يحول دون وجود صومال حقيقية على بعد أميال من الشواطئ الجنوبية للاتحاد الأوروبي، وتزيد من فضاء انتشار الإرهاب في منطقة جغرافية صعبة، قد تصل مساحتها إلى 15 مليون كيلو متر مربع، بل ويمكن أن تؤدّي إلى مخاطر/ تهديدات تطاول المغرب العربي والساحل برمّته.