07 أكتوبر 2024
الجماعة العلمية في معهد الدوحة للدراسات العليا.. الانطلاقة والتحديات
لم يبعدني نشر كتابي "البحث العربي ومجتمع المعرفة.. رؤية نقدية جديدة" (مركز دراسات الوحدة العربية. 2015) عن متابعة مراقبتي الإنتاج المعرفي العربي، وهاجس البحث عن مواضع الجماعة العلمية، إذ ألمس ضعفها الشديد في العالم العربي. ولعلني سررت كثيرا من إقامتي أستاذا زائرا في معهد الدوحة للدراسات العليا لأراقب نشوء جماعة علمية عربية وتبلورها بكل معنى الكلمة. قبل الولوج في إثبات ذلك، أنبه إلى خصوصيتين للمعهد: الأولى أن مركزا بحثيا (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) أنشأه، إذ يندر أن نجد جامعة تحتوي على مركز ابحاث كبير يتناسب حجما ويتفاعل (إلى حد معقول) ببرامجه البحثية مع أعضاء الهيئة التدريسية. وهذا مختلفٌ عن ظاهرةٍ رصدتها قبل سنوات عن إشكالية وجود مراكز أبحاث (غالبا منظمات غير حكومية خارج حرم الجامعة) بدون باحثين. والخصوصية الثانية أن هذا المعهد يضم طلابًا وأساتذةً قادمين من كل مشارب الوطن العربي، فهنا يلتقي الفلسطيني والموريتاني والصومالي والسوداني والمغربي والجزائري والسوري واللبناني والمصري والقطري، وجنسيات عربية أخرى، مع بعضها بعضا، وكأن هذا المعهد يطمح إلى أن يكون مختبرا للوحدة العربية من الأسفل إلى الأعلى، بعد أن أفشلت مثل هذه المحاولات سياساتٌ من علٍ.
ما يعجبك في معهد الدوحة للدراسات العليا ليس النوعية الراقية للطلاب الذين تم اختيارهم بعناية شديدة فحسب، وكذلك الأساتذة، ولكن أيضا نوعية النقاش والجدل المختلف عما اعتدت عليه في بعض الندوات في مصر ولبنان وفلسطين، والذي غالبا ما يغرق في محلياتٍ مفرطة. وما أدعيه هنا أن في هذا المعهد/ المركز جماعة علمية، تظهر من خلال النشاطات اليومية للباحثين والأساتذة. والجماعة العِلميّة ليست مجموعاً حسابيّاً للمُشتغلين في البحث العِلمي، وإنّما هي شبكات يتوفر فيها حدٌّ أدنى من المَأسَسَة والاستقلاليّة والسلطة. وهذا يتطلب تهيكل الجماعات العلميّة لدعم المنافسة والتعاون بين أعضائها. ولدى هؤلاء الأعضاء عادةً وظائف مختلفة، كتشكيل فرق بحثيّة وجمعيّات علميّة حيويّة، ومُناقَشة الموضوعات الجدليّة العلميّة، ومُراجعة الأقران للمخطوطات المُحضَّرة للنشر. ويصبح وجود هذه الجماعة العلمية أكثر إلحاحا في ظل دول الاستبداد في المنطقة، فما أسهل على المستبد أن يعاقب الفرد، فالجماعة تعني تحالف الأفراد. ويرتبط مفهوم الجماعة العِلميّة بوجود اثنتَين من العمليّات المُترابطة: مأْسَسَة العلوم (الهياكل، والتمويل، والتقييم)، وإنشاء مَحافل للمُناقشة. وتكتفي هذه المقالة بأسباب أربعة لانبثاق جماعة علمية في المعهد/ المركز.
جماعة علمية
يتمثل السبب الأول بوجود جدل أراه يتطور يوميا، مستفيدا من المحاضرات والندوات
والمؤتمرات والنشر (إن كان على شكل مقالات أو كتب). هناك موضوعاتٌ حسّاسةٌ ومصيريةٌ يتناولها المركز/ المعهد: الانتقال إلى الديمقراطية في ظل الحراك العربي، الدين والعلمانية، الطائفية، مناهج العلوم الاجتماعية. وليس مصادفةً أن هذه كلها عناوين لكتب وموضوعات كتبها ويكتبها عزمي بشارة، باعتباره المايسترو الفكري والفلسفي لمشروعي المركز والمعهد، فمثلا يرفض الجدل في هذا المركز المعهد أن تتحول العلمانية إلى مقابلٍ للدين. ثمة اشتغال فكري يؤسس لنموذج نظري لمفهوم التديّن الذي يأخذ دلالاته من نتائج المؤشر العربي (استطلاعٌ سنويّ ينجزه المركز العربي في بعض البلدان العربية التي لا تمانع سلطاتها تنفيذه)، ويغذّيه نظريا. وبما أنه لا علم بدون بنية تحتية وحامل لغوي، يولي المركز اهتماما خاصا باللغة العربية من خلال معجم الدوحة التاريخي، وليس ذلك غريبا بما أن المركز اتخذ شعارا له هو "إنتاج معرفة باللغة العربية".
السبب الثاني هو تواصل وحوار بين النخب، ومن آراء مختلفة، بدلا من سيادة الأحادية. تكاد تقل كثيرا الفضاءات في العالم العربي التي يتحاور فيها الباحثون المنتمون إلى مروحةٍ واسعةٍ من الاتجاهات والمدارس الفكرية. والمقصود بالحوار ليس عملية مهادنة للنقد (بوس لحى، كما نقول في المشرق) وإنما باعتباره عمليةً أخلاقية تؤسس للتعارف، للتعلم، للتبادل، وللإنسانية. وهذا لا يتم بدون مراجعة للذات، ولفكرة التبشير بالحقيقة، وذلك للتأسيس لثقافةٍ يكون فيها المثقف قلقا، حسب تعبير خالد الحروب. وهكذا تتداخل التصنيفات، ذات الأيديولوجيا التصادمية، لتخرج أفكارا تتراوح بين الليبرالية، الإسلامية، الماركسية، والعلمانية، بدون أي إمكانيةٍ لاختزال فكرةٍ لمشرب أيديولوجي واحد.
يبدو الموضوع بديهياً. كلا، إنه ليس كذلك، هناك قطيعة بين النخب في كل بلد عربي باسم التراث حينا والحداثة أحيانا أخرى، أو العلمانية والديانية (أيديولوجيا الحركات الإسلامية)... وقد غذَى الاستبداد، المحلي أو الاستعماري، ذلك. وعندما نفحت الانتفاضات العربية روح الحرية في مجتمعاتنا لم يستفد منها الجميع. ومن جامعتي العريقة (الأميركية في بيروت)، وهي بوتقة للحرية الفكرية، أعطي مثلا على هذه القطيعة، فلقد حصرت أسماء المشاركين بثلاث وعشرين ندوة أو محاضرة عن الانتفاضات العربية، أقيمت فيها بين 2011 و2015. من بين عشرات المشاركين هناك فقط مدعوان من ذوي الاتجاهات الإسلامية، في مقابل عشراتٍ من المنظّرين لليسار وللعسكر وللمقاومة والممانعة. كانت هناك أوراقٌ كثيرة عن
الحركات الإسلامية ولكن بلون واحد تجييشي للحديث عن "سرقة" هذه الحركات الثورات، و"عدم مصداقية مطالبتهم بالديمقراطية"، وأن "سيد قطب يبقى الملهم التنظيمي والنظري تحت عباءتهم"، وأنهم "عملاء لأميركا والسعودية"... إلخ. كان ينبغي الانتظار حتى 2016 للاستماع لشخصيات مثل هبة عبد الرؤوف وعبد الفتاح مورو اللذين شاركا في مؤتمر للجامعة بالتعاون مع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وتنظيم معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولة (خمس سنوات على الثورات العربية: عسر التحول الديمقراطي ومآلاته). لقد استطاع المركز/ المعهد أن يوجِد مناخا جديدا لحوارات لم نكن نسمعها من قبل، ولم تعد الجماعة العلمية للعلوم الاجتماعية مرتبطةً بالتعريف "بعدائها للدين"، أو بـ"صمتها على الاستبداد"، بل باشتباكها مع واقعٍ فيه طبقات اجتماعية، تراث، حداثة، وعولمة، وقبل كل شيء، إنها جماعة ذات سماع مرهف لأصوات الفاعلين الاجتماعيين ومطالبهم في سيرورة حياتهم اليومية.
السبب الثالث، تأمين معهد الدوحة للدراسات العليا والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطقوس التي يحتاجها تشكل أي جماعة علمية. لا جماعة علمية بدون الطقوس الصغيرة، كإحياءٍ للمكانةِ الفكرية لأعضائها. هذه الطقوس هي تقييمات غير رسمية، تسمح بقياس وضعيّة فرد أو مجموعة داخل الجماعة العِلميّة. وهكذا لا يمرّ أسبوع بدون احتفاء المركز/ المعهد بكتاب جديد. مثلا، نوقش كتاب الفيلسوف المغربي، رشيد بوطيب، "نقد الحرية.. مدخل إلى فلسفة إمانويل ليفيناس". وبما أن المعهد هو بوتقة تتداخل فيها الاختصاصات، فقد ناقش بوطيب الأنثروبولوجي إسماعيل الناشف وأستاذ الأدب المقارن أيمن الدسوقي وأستاذ الفلسفة رجا بهلول. ويستمر نقاش محاضرات وأفكار كثيرة مع الطلاب والأساتذة في أروقة المعهد. وتصبح الكافيتيريا، مكاناً يمكن لأي طالب الالتحاق بطاولة فيها أساتذة، والنقاش معهم. ويستمر الجدل والاشتباك الفكري مساء وحتى ليلا في سكني الطلبة والأساتذة، وذلك كله داخل الحرم الجامعي. إنه المجال العام الهبرماسي بامتياز. لم يعد الاحتفاء والتكريم حصرا على رحيل الباحث، وكأنه نوع من الاعتراف الجنائزي، بل تأسيس لجماعةٍ علميةٍ تتحاور ساعية إلى دفع المعرفة أماما، بدلا من المراوحة أو الاكتفاء بالاستشهاد بالنظريات الأميركية والأوروبية، مع النوح والبكاء على هيمنة المركزية - الأوروبية والدعوات بضرورة توطين المعرفة وتعريبها، وخلع الاستعمار عنها.
وأخيرا، السبب الرابع هو ربط المركز/ المعهد المعرفة بالمجتمع، فأغلب باحثي المركز وأساتذة المعهد ينتجون المعرفة العميقة. وفي الوقت نفسه، يكتبون في الصحف، ويتفاعلون مع التاريخ، وهو في صيرورة صنعه، فهم أيضا صانعوه. وكأنني أريد القول إن خصوصية الجماعة العلمية في العلوم الاجتماعية لا تتمثل فقط في استقلالها النسبي عن السلطة السياسية (كما في مفهوم الحقل عند بيير بورديو)، ولكن بتبنيها براديغم الالتزام، ليصبح الفعل أو التجربة (praxis) جزءا من تبرير الموقف الفكري والعلمي للجدل (وهذا شرط للعقل العملي غير الاستبدادي بالمعنى الذي تعطيه له الفيلسوفة الإيرلندية ميف كوك).
تحديات
هذا التفاؤل المعرفي بنشوء جماعة علمية في المركز/ المعهد لا يعني غياب تحدّيات عويصة
أمام الجماعة العلمية والإدارة. هي تحدّيات تفرضها البيئة الجغرافية التي يوجد فيها المركز/ المعهد، والتي يمكن لها أن تؤثر على وتيرة تطور هذه الجماعة ونضوجها. ليست هذه البيئة فقط قطرية، ولكنها خليجية بامتياز، ونجدها أيضا في دول عربية أخرى بأشكال متفاوتة. هنا ثلاثة تحدّيات، تتطلب مواجهتها تضافر جهود الباحث/ الأستاذ الفرد والمؤسسة.
الأول، سياسات التشغيل، فهناك نمط خليجي في التعامل مع العمالة الأجنبية يتسم باعتبارها كأشياء يمكن التخلص منها، واستبدالها سريعا (disposable labor) ومن دون حقوق تذكر. وقد أظهر بحثي الميداني شعورا مضطربا بعدم الاستقرار النفسي والوظيفي لدى عدد مهم من أساتذة الجامعات الوافدين العرب في هذه البلدان، وبأن كثيرا من الاستنسابية الشخصية قد تنهي عقودهم.
التحدي الثاني مربوط بالأول، فالاستنسابية تولد المحسوبيات والخوف من النقد. وأجمل ما سمعته من أستاذ علم اجتماع وافد، تجرأ على نقد رئيس قسمه في جامعةٍ خليجية، فقال له زميل وافد آخر إنه إذا كان يريد فعلا الحفاظ على وظيفته عليه عدم انتقاد رئيس القسم المواطن. بعد عدة أشهر، أصبح هذا الزميل الوافد رئيسا للقسم، وبعد أول مجادلةٍ معه، ذكّره بأن عليه عدم الانتقاد. فالمقهور أصبح قاهرا. وهكذا توحي هذه القصة (وسمعت أمثالها كثيرا) إشكالية كبيرة، لأن الوظيفة الأساس للعلوم الاجتماعية هي النقد، نقد كل السلطات، من السياسية إلى المجتمعية والدينية.
التحدي الثالث لغوي، فمع سلعنة الجامعات وهوسها في الترتيب العالمي، وقياسات الجودة الشكلية ذات الطابع الكمي، أصبحت الجامعات تدفع أعضاء هيئتها الدراسية إلى النشر باللغة الإنكليزية في مجلات نعرف إحصائيا (من خلال دراسة علمية جادة) أنه ليس أكثر من تسع قراء يقرأونها في المتوسط. طبعا هناك جامعات عربية مفرطة في المحلية، ولا ينتج باحثوها إلا منتجا محليا. كيف يمكن للجامعات في دول الخليج، والتي تدفع بالاتجاه الأول، الموازنة بين هذين الاتجاهين؟ لن يكون ذلك ممكنا من دون اعتراف واضح بأن للبحث العلمي وظائف متعدّدة، منها النقدي الأكاديمي أو المهني، ومنها تقديم معرفة مبسطة عِلميّة للجمهور العاديّ (إذ لا يعرف بعضُهم الفرق بين المناخ والطقس مثلاً). هذه المعرفة الأساسية هي شرطٌ للتأثير
على المجتمع والسلطات السياسية، عن طريق بِناء تحالُفٍ مع العموم، ولأنّ صنّاع القرار يهتمّون بالرأي العامّ أكثر من الحقائق العِلميّة. إذا لم تقم هذه الجامعات بتغيير أنظمة الترقية، للاعتراف بتنوع وظائف البحث العلمي، وإذا لم يقم الباحثون بتنويع جمهور بحثهم العلمي (قد يكون ذلك ببساطة من خلال الترجمة)، فسنبقى أمام ظاهرة نخب مجزَّأة داخل كلّ دولة لا تتواصل مع بعضها بعضا، فهي نخب إما أنها تنشُر عالمياً لكنّها تندثر محلّياً أو تنشُر محلّياً لكنّها تندثر عالمياً (Publish globally and perish locally vs publish locally and perish globally).
لقد اختار معهد الدوحة للدراسات العليا ألا يكون على شاكلة الفروع النازلة بمظلاتٍ من أميركا وأوروبا (parachuted branches)، والتي تُنْقَل بدون أيكولوجيتها التي ترعرعت بها (الحريات الفردية وخصوصا حرية التعبير). ابتدع المركز مبدأ استخدام "عقود متجدّدة" لعشرةٍ من أعضاء هيئته التدريسية (من أصل 60 عضواً) وهذا نادرٌ في كل الخليج العربي. أراد المعهد والمركز أن يكونا فضاءً ماكرويا (microcosm) يستمدا قوتهما من عمقهما العربي. هذا رهان كبير، وممكن، ما دام يواجه بحزم التحديات المذكورة أعلاه.
ما يعجبك في معهد الدوحة للدراسات العليا ليس النوعية الراقية للطلاب الذين تم اختيارهم بعناية شديدة فحسب، وكذلك الأساتذة، ولكن أيضا نوعية النقاش والجدل المختلف عما اعتدت عليه في بعض الندوات في مصر ولبنان وفلسطين، والذي غالبا ما يغرق في محلياتٍ مفرطة. وما أدعيه هنا أن في هذا المعهد/ المركز جماعة علمية، تظهر من خلال النشاطات اليومية للباحثين والأساتذة. والجماعة العِلميّة ليست مجموعاً حسابيّاً للمُشتغلين في البحث العِلمي، وإنّما هي شبكات يتوفر فيها حدٌّ أدنى من المَأسَسَة والاستقلاليّة والسلطة. وهذا يتطلب تهيكل الجماعات العلميّة لدعم المنافسة والتعاون بين أعضائها. ولدى هؤلاء الأعضاء عادةً وظائف مختلفة، كتشكيل فرق بحثيّة وجمعيّات علميّة حيويّة، ومُناقَشة الموضوعات الجدليّة العلميّة، ومُراجعة الأقران للمخطوطات المُحضَّرة للنشر. ويصبح وجود هذه الجماعة العلمية أكثر إلحاحا في ظل دول الاستبداد في المنطقة، فما أسهل على المستبد أن يعاقب الفرد، فالجماعة تعني تحالف الأفراد. ويرتبط مفهوم الجماعة العِلميّة بوجود اثنتَين من العمليّات المُترابطة: مأْسَسَة العلوم (الهياكل، والتمويل، والتقييم)، وإنشاء مَحافل للمُناقشة. وتكتفي هذه المقالة بأسباب أربعة لانبثاق جماعة علمية في المعهد/ المركز.
جماعة علمية
يتمثل السبب الأول بوجود جدل أراه يتطور يوميا، مستفيدا من المحاضرات والندوات
السبب الثاني هو تواصل وحوار بين النخب، ومن آراء مختلفة، بدلا من سيادة الأحادية. تكاد تقل كثيرا الفضاءات في العالم العربي التي يتحاور فيها الباحثون المنتمون إلى مروحةٍ واسعةٍ من الاتجاهات والمدارس الفكرية. والمقصود بالحوار ليس عملية مهادنة للنقد (بوس لحى، كما نقول في المشرق) وإنما باعتباره عمليةً أخلاقية تؤسس للتعارف، للتعلم، للتبادل، وللإنسانية. وهذا لا يتم بدون مراجعة للذات، ولفكرة التبشير بالحقيقة، وذلك للتأسيس لثقافةٍ يكون فيها المثقف قلقا، حسب تعبير خالد الحروب. وهكذا تتداخل التصنيفات، ذات الأيديولوجيا التصادمية، لتخرج أفكارا تتراوح بين الليبرالية، الإسلامية، الماركسية، والعلمانية، بدون أي إمكانيةٍ لاختزال فكرةٍ لمشرب أيديولوجي واحد.
يبدو الموضوع بديهياً. كلا، إنه ليس كذلك، هناك قطيعة بين النخب في كل بلد عربي باسم التراث حينا والحداثة أحيانا أخرى، أو العلمانية والديانية (أيديولوجيا الحركات الإسلامية)... وقد غذَى الاستبداد، المحلي أو الاستعماري، ذلك. وعندما نفحت الانتفاضات العربية روح الحرية في مجتمعاتنا لم يستفد منها الجميع. ومن جامعتي العريقة (الأميركية في بيروت)، وهي بوتقة للحرية الفكرية، أعطي مثلا على هذه القطيعة، فلقد حصرت أسماء المشاركين بثلاث وعشرين ندوة أو محاضرة عن الانتفاضات العربية، أقيمت فيها بين 2011 و2015. من بين عشرات المشاركين هناك فقط مدعوان من ذوي الاتجاهات الإسلامية، في مقابل عشراتٍ من المنظّرين لليسار وللعسكر وللمقاومة والممانعة. كانت هناك أوراقٌ كثيرة عن
السبب الثالث، تأمين معهد الدوحة للدراسات العليا والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطقوس التي يحتاجها تشكل أي جماعة علمية. لا جماعة علمية بدون الطقوس الصغيرة، كإحياءٍ للمكانةِ الفكرية لأعضائها. هذه الطقوس هي تقييمات غير رسمية، تسمح بقياس وضعيّة فرد أو مجموعة داخل الجماعة العِلميّة. وهكذا لا يمرّ أسبوع بدون احتفاء المركز/ المعهد بكتاب جديد. مثلا، نوقش كتاب الفيلسوف المغربي، رشيد بوطيب، "نقد الحرية.. مدخل إلى فلسفة إمانويل ليفيناس". وبما أن المعهد هو بوتقة تتداخل فيها الاختصاصات، فقد ناقش بوطيب الأنثروبولوجي إسماعيل الناشف وأستاذ الأدب المقارن أيمن الدسوقي وأستاذ الفلسفة رجا بهلول. ويستمر نقاش محاضرات وأفكار كثيرة مع الطلاب والأساتذة في أروقة المعهد. وتصبح الكافيتيريا، مكاناً يمكن لأي طالب الالتحاق بطاولة فيها أساتذة، والنقاش معهم. ويستمر الجدل والاشتباك الفكري مساء وحتى ليلا في سكني الطلبة والأساتذة، وذلك كله داخل الحرم الجامعي. إنه المجال العام الهبرماسي بامتياز. لم يعد الاحتفاء والتكريم حصرا على رحيل الباحث، وكأنه نوع من الاعتراف الجنائزي، بل تأسيس لجماعةٍ علميةٍ تتحاور ساعية إلى دفع المعرفة أماما، بدلا من المراوحة أو الاكتفاء بالاستشهاد بالنظريات الأميركية والأوروبية، مع النوح والبكاء على هيمنة المركزية - الأوروبية والدعوات بضرورة توطين المعرفة وتعريبها، وخلع الاستعمار عنها.
وأخيرا، السبب الرابع هو ربط المركز/ المعهد المعرفة بالمجتمع، فأغلب باحثي المركز وأساتذة المعهد ينتجون المعرفة العميقة. وفي الوقت نفسه، يكتبون في الصحف، ويتفاعلون مع التاريخ، وهو في صيرورة صنعه، فهم أيضا صانعوه. وكأنني أريد القول إن خصوصية الجماعة العلمية في العلوم الاجتماعية لا تتمثل فقط في استقلالها النسبي عن السلطة السياسية (كما في مفهوم الحقل عند بيير بورديو)، ولكن بتبنيها براديغم الالتزام، ليصبح الفعل أو التجربة (praxis) جزءا من تبرير الموقف الفكري والعلمي للجدل (وهذا شرط للعقل العملي غير الاستبدادي بالمعنى الذي تعطيه له الفيلسوفة الإيرلندية ميف كوك).
تحديات
هذا التفاؤل المعرفي بنشوء جماعة علمية في المركز/ المعهد لا يعني غياب تحدّيات عويصة
الأول، سياسات التشغيل، فهناك نمط خليجي في التعامل مع العمالة الأجنبية يتسم باعتبارها كأشياء يمكن التخلص منها، واستبدالها سريعا (disposable labor) ومن دون حقوق تذكر. وقد أظهر بحثي الميداني شعورا مضطربا بعدم الاستقرار النفسي والوظيفي لدى عدد مهم من أساتذة الجامعات الوافدين العرب في هذه البلدان، وبأن كثيرا من الاستنسابية الشخصية قد تنهي عقودهم.
التحدي الثاني مربوط بالأول، فالاستنسابية تولد المحسوبيات والخوف من النقد. وأجمل ما سمعته من أستاذ علم اجتماع وافد، تجرأ على نقد رئيس قسمه في جامعةٍ خليجية، فقال له زميل وافد آخر إنه إذا كان يريد فعلا الحفاظ على وظيفته عليه عدم انتقاد رئيس القسم المواطن. بعد عدة أشهر، أصبح هذا الزميل الوافد رئيسا للقسم، وبعد أول مجادلةٍ معه، ذكّره بأن عليه عدم الانتقاد. فالمقهور أصبح قاهرا. وهكذا توحي هذه القصة (وسمعت أمثالها كثيرا) إشكالية كبيرة، لأن الوظيفة الأساس للعلوم الاجتماعية هي النقد، نقد كل السلطات، من السياسية إلى المجتمعية والدينية.
التحدي الثالث لغوي، فمع سلعنة الجامعات وهوسها في الترتيب العالمي، وقياسات الجودة الشكلية ذات الطابع الكمي، أصبحت الجامعات تدفع أعضاء هيئتها الدراسية إلى النشر باللغة الإنكليزية في مجلات نعرف إحصائيا (من خلال دراسة علمية جادة) أنه ليس أكثر من تسع قراء يقرأونها في المتوسط. طبعا هناك جامعات عربية مفرطة في المحلية، ولا ينتج باحثوها إلا منتجا محليا. كيف يمكن للجامعات في دول الخليج، والتي تدفع بالاتجاه الأول، الموازنة بين هذين الاتجاهين؟ لن يكون ذلك ممكنا من دون اعتراف واضح بأن للبحث العلمي وظائف متعدّدة، منها النقدي الأكاديمي أو المهني، ومنها تقديم معرفة مبسطة عِلميّة للجمهور العاديّ (إذ لا يعرف بعضُهم الفرق بين المناخ والطقس مثلاً). هذه المعرفة الأساسية هي شرطٌ للتأثير
لقد اختار معهد الدوحة للدراسات العليا ألا يكون على شاكلة الفروع النازلة بمظلاتٍ من أميركا وأوروبا (parachuted branches)، والتي تُنْقَل بدون أيكولوجيتها التي ترعرعت بها (الحريات الفردية وخصوصا حرية التعبير). ابتدع المركز مبدأ استخدام "عقود متجدّدة" لعشرةٍ من أعضاء هيئته التدريسية (من أصل 60 عضواً) وهذا نادرٌ في كل الخليج العربي. أراد المعهد والمركز أن يكونا فضاءً ماكرويا (microcosm) يستمدا قوتهما من عمقهما العربي. هذا رهان كبير، وممكن، ما دام يواجه بحزم التحديات المذكورة أعلاه.