لعبت ثلاثيّة (الفقر والبطالة والاستبداد) دور المحرّك الرئيسي للهبّات الشعبية التي شهدتها المنطقة العربيّة في السنوات الأخيرة، وكان لخضوع شعوب هذه الدّول إلى عقودٍ من القمعِ والتضييق على الحريّات، إضافةً لغياب دور النقابات والأحزاب، أثرهُ على اتخاذ هذه الانتفاضات شكل هبّات شعبيّة غير منظمة.
صحيح أن هذه الهبّات كانت قادرة على ملء الساحات بسهولة، لكنها افتقدت لخلفيّة فكريّة وأطرٍ تنظيميّة، ما يعني سهولة تعرضها لثورةٍ مضادّة أحيانًا، أو انتقالها لمرحلة دمويّة من خلال سقوطها في فخ الطائفية والنزاعات الأهليّة، كما حدث في ليبيا وسورية مثلًا.
في معظم تجارب الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، لم تملك الجماهير التي نزلت للشوارع أطرًا فكرية وتنظيمية تمكّنها من الوصول إلى مرادها، أو تجعلها قادرة على أن تحلّ مكان السلطة القائمة، وأن يكون لها برنامجها السياسي والاقتصادي، بالتزامن مع غياب أي أثر يُذكر على المستوى الشعبي لمنظّرين ومثقفين، قادرين على رسم ملامح الثورة وما بعدها.
لا يمكن القول إن المنظر السياسي نأى بنفسه عن الثورات، لكن استناد الحراك الشعبي، في معظمه، على الأدوات الإعلامية وما يُنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حل مكان الأطر الفكرية التي كان يطرحها مفكّرون ومنظّرون عرب سابقًا.
بالطّبع، لا يمكن تحميل الشارع العربي مسؤولية ذلك، كما يمكن بسهولة إيجاد أعذار للمثقفين لعدم وجود دور قيادي لهم في هذه المرحلة، بمجرد الوقوف عند السياق التاريخي لمنظومة الحكم التي سادت في هذه الدول، المتشابهة من حيث تكريسها لفجوة كبيرة بين الجماهير من جهة، والمثقفين من جهة أخرى، ومحاربة أي حركة فكريّة تقدميّة.
إلّا أنّ الخطاب الإعلامي العربي لم يكن مستقلًا وموضوعيًا إلى الحد الذي يجعل منه بوصلةً لقيادة الثورات، فقد اتّخذ مسارين أحدهما يؤيّد السلطة، من خلال الدفعِ بمحللين سياسيين وتقارير صحافيّة تكرّس أهميّة بقاء نظام حكم ما، وآخر يوظّف الأدوات ذاتها ولكن باتجاهٍ معاكس، بغرض إسقاط هذا النظام أو ذاك.
وفيما لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورًا أساسيًا في تحرّك الشباب وحشد الرأي العام، لم ينجح المفكّرون في خلق حالة اشتباك فكري مع الناشطين تنتج عنها أفكار ونظريات تدعم أهداف الثورة، وهذا نتيجة لانتشار فوضى المنشورات واستسهال البعض نشر مغالطاتٍ بكبسة زر واحدة، إضافة إلى اهتمام الشباب بمقاطع الفيديو التي تؤرخ الأحداث المتسارعة، على حساب قراءة الخطاب الفكري العميق الذي ينشره مثقفون وناشطون عبر صفحاتهم.
ترتبط الثورة بنشوء حالة وعي عام لوجود معاناةٍ غير مبرّرة يتعرض لها الشعب، وأن هذه المعاناة ليست طارئة ولا يمكن السّكوت عنها أكثر، بالتوازي مع وجود رغبة وقدرة عند الجماهير للتغيير.
لكن هذه العوامل لا يمكن أن تُسخَّر من قبل الشعب لتغيير نظام حُكم أو اختيار مجموعة سياسيّة أخرى لتقود البلاد بشكل يُلبي طموحاتها، دون وجود إطار تنظيمي مدعوم بمنظومة فكريّة ترسم خريطة انتفاضتهم والمرحلة التي تليها؛ وهنا تكمن أهميّة وجود هذه المرجعيّات الفكريّة كبديل ضروري عن الفوضى.
سياسة القمع والتضييق على الحريات، وملاحقة المفكّرين والمثقفين، واحتكار التحالف الحاكم في هذه الدول للسوق ورأس المال، أدّت في نهاية المطاف لنزول أطياف كثيرة من الشعب إلى الميادين، تمكّنت في بعض الدول من إسقاط النظام، بينما نجحت في إحداث خللٍ في بنيته في دولٍ أخرى.
صحيح أن هذا لم يكن كافيًا لتغيير شامل نحو الأفضل، ولكنّه كان تحرًكا إيجابيًا أجبرَ الأنظمة سواء التي ظلّت قائمة، أو تلك التي استلمت الحكم بعد سقوط نظام سابق، على تحقيق تقدم في مجال الحريّات والإصلاح السياسي، ولو بشكلٍ متفاوت، ما يقود مستقبلًا لمرحلة جديدة متقدّمة نسبيًا عمّا شهده الشارع العربي، وهنا يأتي دور المثقّف في تقديم خطاب فكري يلامس قضايا المجتمع، وإيجاد مساحة فكرية كافية لقيادة الناشطين على أرض الميدان.
خمسة أعوام فصلت بين عرض مسرحية "زواج فيغارو" والثورة الفرنسية؛ كان لرواج هذه المسرحية التي ألفها بيير بومارشيه (1732-1799) وانتقدت الظلم الاجتماعي في فرنسا وسلطة النبلاء، دلائل كبيرة على أن الثورة قادمة.
وبعد مرور خمسة أعوام على الانتفاضات العربية، فإن أمام الشباب والمنظّرين العرب، على حد سواء، فرصة مهمّة اليوم لردم الفجوة، والعمل على ترجمة أدبيّات الثورات وفلسفتها إلى خطابٍ واعٍ صادر عن فهم عميق لخصوصيّة المحيط العربي، دون التفريط بطابعها الإنساني الكلّي، سعيًا للخروج بهويّة فكريّة تقود في مرحلة ما إلى بناء دولة الحريات والعدالة الاجتماعية التي يحلمون بها.
(الأردن)
صحيح أن هذه الهبّات كانت قادرة على ملء الساحات بسهولة، لكنها افتقدت لخلفيّة فكريّة وأطرٍ تنظيميّة، ما يعني سهولة تعرضها لثورةٍ مضادّة أحيانًا، أو انتقالها لمرحلة دمويّة من خلال سقوطها في فخ الطائفية والنزاعات الأهليّة، كما حدث في ليبيا وسورية مثلًا.
في معظم تجارب الانتفاضات الشعبية في العالم العربي، لم تملك الجماهير التي نزلت للشوارع أطرًا فكرية وتنظيمية تمكّنها من الوصول إلى مرادها، أو تجعلها قادرة على أن تحلّ مكان السلطة القائمة، وأن يكون لها برنامجها السياسي والاقتصادي، بالتزامن مع غياب أي أثر يُذكر على المستوى الشعبي لمنظّرين ومثقفين، قادرين على رسم ملامح الثورة وما بعدها.
لا يمكن القول إن المنظر السياسي نأى بنفسه عن الثورات، لكن استناد الحراك الشعبي، في معظمه، على الأدوات الإعلامية وما يُنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حل مكان الأطر الفكرية التي كان يطرحها مفكّرون ومنظّرون عرب سابقًا.
بالطّبع، لا يمكن تحميل الشارع العربي مسؤولية ذلك، كما يمكن بسهولة إيجاد أعذار للمثقفين لعدم وجود دور قيادي لهم في هذه المرحلة، بمجرد الوقوف عند السياق التاريخي لمنظومة الحكم التي سادت في هذه الدول، المتشابهة من حيث تكريسها لفجوة كبيرة بين الجماهير من جهة، والمثقفين من جهة أخرى، ومحاربة أي حركة فكريّة تقدميّة.
إلّا أنّ الخطاب الإعلامي العربي لم يكن مستقلًا وموضوعيًا إلى الحد الذي يجعل منه بوصلةً لقيادة الثورات، فقد اتّخذ مسارين أحدهما يؤيّد السلطة، من خلال الدفعِ بمحللين سياسيين وتقارير صحافيّة تكرّس أهميّة بقاء نظام حكم ما، وآخر يوظّف الأدوات ذاتها ولكن باتجاهٍ معاكس، بغرض إسقاط هذا النظام أو ذاك.
وفيما لعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورًا أساسيًا في تحرّك الشباب وحشد الرأي العام، لم ينجح المفكّرون في خلق حالة اشتباك فكري مع الناشطين تنتج عنها أفكار ونظريات تدعم أهداف الثورة، وهذا نتيجة لانتشار فوضى المنشورات واستسهال البعض نشر مغالطاتٍ بكبسة زر واحدة، إضافة إلى اهتمام الشباب بمقاطع الفيديو التي تؤرخ الأحداث المتسارعة، على حساب قراءة الخطاب الفكري العميق الذي ينشره مثقفون وناشطون عبر صفحاتهم.
ترتبط الثورة بنشوء حالة وعي عام لوجود معاناةٍ غير مبرّرة يتعرض لها الشعب، وأن هذه المعاناة ليست طارئة ولا يمكن السّكوت عنها أكثر، بالتوازي مع وجود رغبة وقدرة عند الجماهير للتغيير.
لكن هذه العوامل لا يمكن أن تُسخَّر من قبل الشعب لتغيير نظام حُكم أو اختيار مجموعة سياسيّة أخرى لتقود البلاد بشكل يُلبي طموحاتها، دون وجود إطار تنظيمي مدعوم بمنظومة فكريّة ترسم خريطة انتفاضتهم والمرحلة التي تليها؛ وهنا تكمن أهميّة وجود هذه المرجعيّات الفكريّة كبديل ضروري عن الفوضى.
سياسة القمع والتضييق على الحريات، وملاحقة المفكّرين والمثقفين، واحتكار التحالف الحاكم في هذه الدول للسوق ورأس المال، أدّت في نهاية المطاف لنزول أطياف كثيرة من الشعب إلى الميادين، تمكّنت في بعض الدول من إسقاط النظام، بينما نجحت في إحداث خللٍ في بنيته في دولٍ أخرى.
صحيح أن هذا لم يكن كافيًا لتغيير شامل نحو الأفضل، ولكنّه كان تحرًكا إيجابيًا أجبرَ الأنظمة سواء التي ظلّت قائمة، أو تلك التي استلمت الحكم بعد سقوط نظام سابق، على تحقيق تقدم في مجال الحريّات والإصلاح السياسي، ولو بشكلٍ متفاوت، ما يقود مستقبلًا لمرحلة جديدة متقدّمة نسبيًا عمّا شهده الشارع العربي، وهنا يأتي دور المثقّف في تقديم خطاب فكري يلامس قضايا المجتمع، وإيجاد مساحة فكرية كافية لقيادة الناشطين على أرض الميدان.
خمسة أعوام فصلت بين عرض مسرحية "زواج فيغارو" والثورة الفرنسية؛ كان لرواج هذه المسرحية التي ألفها بيير بومارشيه (1732-1799) وانتقدت الظلم الاجتماعي في فرنسا وسلطة النبلاء، دلائل كبيرة على أن الثورة قادمة.
وبعد مرور خمسة أعوام على الانتفاضات العربية، فإن أمام الشباب والمنظّرين العرب، على حد سواء، فرصة مهمّة اليوم لردم الفجوة، والعمل على ترجمة أدبيّات الثورات وفلسفتها إلى خطابٍ واعٍ صادر عن فهم عميق لخصوصيّة المحيط العربي، دون التفريط بطابعها الإنساني الكلّي، سعيًا للخروج بهويّة فكريّة تقود في مرحلة ما إلى بناء دولة الحريات والعدالة الاجتماعية التي يحلمون بها.
(الأردن)