أحيانًا يكون التأريخ لحدثٍ ما عبثيًا، منبت الصلة عن كلّ شيء، مفارقًا لأي منطق. ويكاد هذا الكلام ينطبق بدقّة على غزّة، إذ إن جملة تقول بـ مرور عام على الحرب على غزّة، توحي وكأن الأمر ذكرى، مع أن الواقع يكذّب جملة مماثلة، ويفرض تدقيقها لتصير "مرور عام على الحرب الأخيرة على غزّة". من دون أن يحمل لفظ "الأخيرة" بدوره معناه القاموسي على الإطلاق. فقارئ الجملة سيتمّمها في ذهنه، مدركًا أن لا نهاية على ما يبدو لسلسلة الحروب التي تشنّها إسرائيل على المكان الضيّق، لصق البحر. سيجتهد السياسيون في التحليل، وقد يتذرّع بعضهم بـ "الذريعة" التي أدّت إلى الحرب على غزّة. أسياد الذرائع وملوكها هم.
بيد أن هذا المكان الموجود باستمرار في أسفل القوائم العالمية للفقر والبطالة والبؤس والقهر، والمسفوح في نشرات الأخبار كصورة عن عقاب جماعي لا شيء يبدّده، والموجود في أفلام وثائقية وغير وثائقية، أطلّ هذا العام في ذكرى الحرب "الأخيرة"، ضمن شرائط مصورة، تخبّر عن حجم الدمار الكبير الذي تسبّبت به إسرائيل. دمارٌ لا يبدو أن ثمة في الأفق حلّا له.
تطلّ غزة على البحر، وقد يوحي البحر لسكّانها بالانعتاق من كلّ هذا الواقع المأساوي، فيذهبون إليه، لعلّ وعسى ترتاح أرواحهم من العدو القابض على أرضهم وسمائهم وهوائهم.
في واحدة من الحروب على غزّة نقلت الفضائيات شريطًا مصورًا للطفلة هدى غالية وهي تبكي وتصرخ على شاطئ بحر غزّة، بعد أن قصفت البارجة عائلتها ورأت بعينيها جثة أبيها القتيل. شبّهت صورة الطفلة الباكية بلوحة الصرخة الشهيرة للرسام النرويجي إدفارت مونك، وكتب عنها محمود درويش قصيدة بعنوان "البنت / الصرخة" : "على شاطئ البحر بنت، وللبنت أهل وللأهل بيت./ وللبيت نافذتان وباب..../ وفي البحر بارجة تتسلّى/ بصيد المشاة على شاطئ البحر". وهذان المثالان: التشبيه والقصيدة، وربّما ثمة أمثلة أخرى، لا يشيران تمامًا إلى وظيفة الفنّ في الشهادة على أمرٍ ما أو تأريخه، وإن بدا الأمر كذلك للوهلة الأولى، بل يدلان على شيء مختلف يتعلّق بقدرة الفنون على الإشعاع والاستمرار من خلال التعبير عن الوجدان والأحاسيس، وبذلك تقف الفنون على الضدّ تمامًا من السياسة أو بصورة أدق من السلطة. فحين تصل إلى المتلقي، تقيم في وجدانه وتؤثّر فيه، من حيث تدفعه باستمرار إلى التفكير والتأمّل، وتفتح عينيه على الحقيقة والحقّ، صحيح أن ذلك يغلّف كلّه بجمال التعبير وقوّة الإيحاء، إلا أن ذلك ليس نقيصةً يمكن أن تُعاب الفنون عليها. إذ إن الجمال كمفهوم، يجد طريقه إلى القلب والتأثير، ويسمو بالمشاعر الإنسانية.
وقد يكون المبدع أو الفنان واعيًا لهذه النقطة، ملتزمًا بها كما ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد، الشاعر الكاتالاني إنريك كزاسَس، حيث يقول إن ما يحفزه على كتابة الشعر هو: "الحياة، والحبّ، والجمال البشريّ، وحسن الطبيعة. والكتابة عن "عدو" كلّ هذه الأشياء".
والشعر من بين الفنون جميعها، يتميّز بهشاشته. هو كائن سريع العطب لو جاز التعبير، إلا أن قوّته بالضبط كامنة في ضعفه وهشاشته. وتجربة كتابته بحدّ ذاتها، تستحق التأمّل؛ إذ ما الذي يدفع الشاعر حقًّا لخطّ كلمات قليلة، نتيجةً لحدث "خارجي" سيدفعه في النهاية إلى سفح "داخله" على الملأ؟. على الشاعر أن يكون شجاعًا لعمل ذلك أولًا، فهو وحيد في "مواجهة" ورقة بيضاء أو شاشة كومبيوتر سيان، و"أسلحته": مجاز واستعارة وكناية وتشبيه وقول مباشر ولفظ صريح، يستعملها كما يريد، ويوازن بينها، ليشدّ انتباه المتلقي نحو منطقة في روحه، مجهولة وغير مجهولة في آن معًا. واقعة في مطرح يجمع العقل إلى القلب. ومن شأنها أن تحفز مشاعره كلّها، لكن الأهم أنها هي التي قد تدلّه على أخطاء المعنى في عبارة :"مرور عام على الحرب الأخيرة على غزّة".
ما يميّز الشاعر الكاتلاني إنريك كزاسَس، انطلاقه من منطقة بيضاء ناصعة، هي منطقة الشّعر. لكن هذه المنطقة في حالته لها أمرٌ آخر يميّزها، فقصيدته مكتوبة بلغة قليلة الانتشار؛ اللغة الكاتالانية. ما يعني أنها، أي القصيدة، مزدوجة الهشاشة. ومع ذلك فهو لا ينظر إلى اللغة الإسبانية نظرة يشوبها ولو جزءٌ بسيط من كلّ ما هو ضدّ الحبّ والجمال. يدافع عن لغته الكاتلانية من دون أن يهاجم غيرها، وبذا يحصّنها من لوثة الانغلاق والتعصب، ويضمن لها ألا تُعرّف إلا بما هي عليه من استقلالية.
بيد أن هذا المكان الموجود باستمرار في أسفل القوائم العالمية للفقر والبطالة والبؤس والقهر، والمسفوح في نشرات الأخبار كصورة عن عقاب جماعي لا شيء يبدّده، والموجود في أفلام وثائقية وغير وثائقية، أطلّ هذا العام في ذكرى الحرب "الأخيرة"، ضمن شرائط مصورة، تخبّر عن حجم الدمار الكبير الذي تسبّبت به إسرائيل. دمارٌ لا يبدو أن ثمة في الأفق حلّا له.
تطلّ غزة على البحر، وقد يوحي البحر لسكّانها بالانعتاق من كلّ هذا الواقع المأساوي، فيذهبون إليه، لعلّ وعسى ترتاح أرواحهم من العدو القابض على أرضهم وسمائهم وهوائهم.
في واحدة من الحروب على غزّة نقلت الفضائيات شريطًا مصورًا للطفلة هدى غالية وهي تبكي وتصرخ على شاطئ بحر غزّة، بعد أن قصفت البارجة عائلتها ورأت بعينيها جثة أبيها القتيل. شبّهت صورة الطفلة الباكية بلوحة الصرخة الشهيرة للرسام النرويجي إدفارت مونك، وكتب عنها محمود درويش قصيدة بعنوان "البنت / الصرخة" : "على شاطئ البحر بنت، وللبنت أهل وللأهل بيت./ وللبيت نافذتان وباب..../ وفي البحر بارجة تتسلّى/ بصيد المشاة على شاطئ البحر". وهذان المثالان: التشبيه والقصيدة، وربّما ثمة أمثلة أخرى، لا يشيران تمامًا إلى وظيفة الفنّ في الشهادة على أمرٍ ما أو تأريخه، وإن بدا الأمر كذلك للوهلة الأولى، بل يدلان على شيء مختلف يتعلّق بقدرة الفنون على الإشعاع والاستمرار من خلال التعبير عن الوجدان والأحاسيس، وبذلك تقف الفنون على الضدّ تمامًا من السياسة أو بصورة أدق من السلطة. فحين تصل إلى المتلقي، تقيم في وجدانه وتؤثّر فيه، من حيث تدفعه باستمرار إلى التفكير والتأمّل، وتفتح عينيه على الحقيقة والحقّ، صحيح أن ذلك يغلّف كلّه بجمال التعبير وقوّة الإيحاء، إلا أن ذلك ليس نقيصةً يمكن أن تُعاب الفنون عليها. إذ إن الجمال كمفهوم، يجد طريقه إلى القلب والتأثير، ويسمو بالمشاعر الإنسانية.
وقد يكون المبدع أو الفنان واعيًا لهذه النقطة، ملتزمًا بها كما ضيف ملحق الثقافة لهذا العدد، الشاعر الكاتالاني إنريك كزاسَس، حيث يقول إن ما يحفزه على كتابة الشعر هو: "الحياة، والحبّ، والجمال البشريّ، وحسن الطبيعة. والكتابة عن "عدو" كلّ هذه الأشياء".
والشعر من بين الفنون جميعها، يتميّز بهشاشته. هو كائن سريع العطب لو جاز التعبير، إلا أن قوّته بالضبط كامنة في ضعفه وهشاشته. وتجربة كتابته بحدّ ذاتها، تستحق التأمّل؛ إذ ما الذي يدفع الشاعر حقًّا لخطّ كلمات قليلة، نتيجةً لحدث "خارجي" سيدفعه في النهاية إلى سفح "داخله" على الملأ؟. على الشاعر أن يكون شجاعًا لعمل ذلك أولًا، فهو وحيد في "مواجهة" ورقة بيضاء أو شاشة كومبيوتر سيان، و"أسلحته": مجاز واستعارة وكناية وتشبيه وقول مباشر ولفظ صريح، يستعملها كما يريد، ويوازن بينها، ليشدّ انتباه المتلقي نحو منطقة في روحه، مجهولة وغير مجهولة في آن معًا. واقعة في مطرح يجمع العقل إلى القلب. ومن شأنها أن تحفز مشاعره كلّها، لكن الأهم أنها هي التي قد تدلّه على أخطاء المعنى في عبارة :"مرور عام على الحرب الأخيرة على غزّة".
ما يميّز الشاعر الكاتلاني إنريك كزاسَس، انطلاقه من منطقة بيضاء ناصعة، هي منطقة الشّعر. لكن هذه المنطقة في حالته لها أمرٌ آخر يميّزها، فقصيدته مكتوبة بلغة قليلة الانتشار؛ اللغة الكاتالانية. ما يعني أنها، أي القصيدة، مزدوجة الهشاشة. ومع ذلك فهو لا ينظر إلى اللغة الإسبانية نظرة يشوبها ولو جزءٌ بسيط من كلّ ما هو ضدّ الحبّ والجمال. يدافع عن لغته الكاتلانية من دون أن يهاجم غيرها، وبذا يحصّنها من لوثة الانغلاق والتعصب، ويضمن لها ألا تُعرّف إلا بما هي عليه من استقلالية.