الحرب على حماس.. خطة لإنهاء الإخوان في المنطقة
يتمحور النقاش الدائر حالياً في واشنطن، بشأن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، على محاولة فهم العلاقة بين ما يجري اليوم في غزة وما جرى ويجري في المنطقة العربية منذ اندلاع ثورات الربيع العربي في 2011.
ولا يُعرف على وجه التحديد ما يقوله المسؤولون في غرف النقاشات السرية، ولكن، يمكن استنتاجها من تسريبات منشورة في الصحافة الأميركية، أو الآراء التي تتبناها مراكز أبحاث، كونها تعكس جزءاً من النقاشات الحقيقية، أكثر مما تعبر عنه التصريحات الرسمية المدروسة لمسؤولين خاضعين لقيود الدبلوماسية، أو حسابات الصفة الرسمية التي يحملونها.
الربيع العربي وتحالفات جديدة
ويكاد الباحثون الأميركيون، والمتابعون للشأن العربي، يجمعون في استنتاجاتهم على أن "قواعد الاشتباك"، حسب -التعبير الأميركي الهوليوودي- أو خريطة التحالفات، حسب التعبير السائد في منطقتنا العربية، أضحت، اليوم، مختلفة تماماً عما كانت عليه قبل عام 2011.
وفي هذا الإطار، تزايدت الاتهامات الصريحة لأنظمةٍ عربية بأنها تقف مع إسرائيل في خندق واحد ضد حركة المقاومة الإسلامية حماس، وبالتالي، ضد السكان الفلسطينيين في قطاع غزة.
ولكن، يمكن المرور على مثل هذه الاتهامات مرور الكرام، لو أنها نشرت في الصحافة العربية، المليئة عادة بتهم التخوين والتحقير بين المختلفين في الرأي، أو المدافعين عن هذا النظام، أو ذاك.
أما أن توجه تهمة الانحياز لإسرائيل إلى حكوماتٍ عربيةٍ في عناوين بارزة، تتناقلها كبريات الصحف والمحطات الأميركية، وتتابع تفاصيلها وكالات أنباء عالمية عملاقة، فإن الأمر يتطلب التأمل فيما جرى، وتوقع نتائج مختلفة لما يجري.
وفي هذا السياق، يقول المفاوض الأميركي السابق، آرون ديفيد ميلر، الذي يعمل حالياً في مركز ودرو ويلسون في واشنطن "لم أر من قبل أبداً وضعاً يشبه الوضع الذي نجد فيه دولاً عربية عديدة، تقبل بالقتل والدمار الجاري في غزة. إنه الصمت الذي يصم الآذان"، ويحاول ميلر تفسير ذلك، وفقا لما نقلته عنه وكالات عالمية، قائلاً: "إن رعب بعض الأنظمة العربية من الإسلام السياسي يتجاوز بكثير اشمئزازها وحساسيتها من بنيامين نتنياهو".
أما مجموعة سوفان الأميركية للأبحاث التي أسسها ويديرها ضباط وخبراء سابقون في مكتب التحقيقات الفيدرالي، فكان تفسيرها مواقف الدول العربية أكثر وضوحا بالقول "معركة إسرائيل الحالية ضد حماس جزء من حرب أوسع في المنطقة ضد جماعة الإخوان المسلمين".
هذا التفسير المختصر المباشر لما يجري حالياً في غزة، وإن كان يتناقض مع حقيقة أن الحملات العسكرية العدوانية على غزة، والانتفاضات الشعبية ضد الاحتلال، ليست جديدة، بل سبقت بمراحل انتفاضات الربيع العربي والثورات المضادة لها، لكن هذا التفسير يتماشى مع المواقف الغريبة للدول العربية، ويوضح أن هناك خارطة تحالف جديدة في المنطقة، قائمة على قاعدة "عدو عدوي صديقي وصديق عدوي عدوي".
وبما أن حماس جزء من حركة الإخوان المسلمين في المنطقة، فإن كسر شوكتها يلبي رغبة أنظمةٍ عربيةٍ تحارب الإخوان، وليس من المستبعد أن يكون وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، قد لمس بنفسه هذه الرغبة لدى بعض من التقاهم في أثناء جولته في المنطقة، فانصاع مضطراً لرغبتهم في عدم تكثيف الضغوط على إسرائيل.
عرب ضد الإسلاميين والمقاومة
وحسب معلومات "العربي الجديد" في واشنطن، فإن الإدارة الأميركية تلقت نصائح من دول عربية، مفادها بأن إشرافها على أي وساطة بين حماس وإسرائيل سيقوي حماس سياسياً، وقد يؤدي إلى استغلال ذلك بأنه يمثل اعترافاً بشرعيتها، وإجهاضاً لجهود إقليمية ساعية إلى اجتثاث الإسلاميين.
وتجدر الإشارة إلى أن جدلاً مستمراً في واشنطن، منذ عهد إدارة الرئيس السابق، جورج بوش، بين صناع القرار بشأن الأسلوب الأمثل لتوجيه الصراع في المنطقة العربية، فكان هناك من يدعو إلى تغذية الصراع الطائفي بين الشيعة والسنة، إلا أن طرفي الصراع اتفقا على رفضهما إسرائيل، ما أجهض أي جدوى من دعم طرف ضد الآخر.
وكان هناك من يروج تشجيع الليبراليين العرب ضد الإسلاميين المتطرفين، إلا أن أصحاب هذه الرؤية انقسموا، لاحقاً، في تصنيف حركة الإخوان المسلمين. وكان هناك سياسيون ومفكرون أميركيون كثيرون ممن ينظرون إلى جماعة الإخوان بإيجابية، بأنها أقرب إلى الوسطية والليبرالية، منها إلى التطرف، في حين أن آخرين وقعوا تحت تأثير مقولة مجهولة المصدر، هي أن الجماعة هي الأم التي تفرّخت منها كل الجماعات المتطرفة.
وساهمت في ترسيخ هذه الرؤية أخطاء إستراتيجية، تتعلق بالتعايش مع التيارات الأخرى، في أثناء التجربة القصيرة التي عرفتها دول عربية، بعيد انطلاق ثورات الربيع العربي، نجح "الإخوان" جزئياً في الوصول إلى الحكم فيها، وتحديداً في تجربتي مصر واليمن.
وظلت التخوفات تتدفق إلى واشنطن بشكل مزدوج، من جهتين منفصلتين، الأولى إسرائيل التي تخشى من ديمقراطية عربية، تعبر عن إرادة الشعوب، أكثر من خشيتها من أنظمةٍ مشغولةٍ عنها بمواجهة شعوبها. والثانية الأنظمة العربية ذاتها، والتي ترى في جماعة الإخوان المسلمين منذ عقود خطراً يهددها أكثر مما تهددها الحركات المتطرفة المسلحة، شيعية وسنية.
وأفصح عن ذلك صراحة للمرة الأولى في العام 2000 وزير الداخلية السعودي حينذاك، الأمير نايف بن عبد العزيز، في حديث لصحيفة السياسة الكويتية، وصف فيه "الإخوان المسلمين" بأنهم أساس البلاء، وأعرب عن مخاوفه من خطورتهم على الأنظمة القائمة.
ويعترف مؤيدو الجماعة بهذه الخطورة، ويقولون إنها نابعة من سعيهم إلى المساهمة في بناء مشروع ديمقراطي في المنطقة العربية، في وقت تشعر فيه الأنظمة بأن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية أكثر خطورة على أصحاب المصالح في هذه الأنظمة من الإرهاب أو التمرد المسلح.
وعلى هذا الأساس، يبني المحللون الأميركيون استنتاجهم بأن المصلحة الإسرائيلية تزاوجت مع مصلحة الأنظمة العربية في هدف مشترك، هو القضاء على خطر مشترك، هو حركة الإخوان المسلمين.
أما الانقسام في الرأي في الولايات المتحدة ذاتها، فمن أهم آثاره الجانبية التخبط الملحوظ في اتخاذ القرار، وما يتلو ذلك من تسريبات للصحافة، من جانب أي طرفٍ ناقم على طرف آخر، لم ينصت إلى وجهة نظره.
وعلى الرغم من أن الهيمنة على الصحافة فيما تريد أن تتناوله، أصبح جزءاً من الماضي التليد، حتى في أعتى الديكتاتوريات، إلا أن هذا لا يعني أن صناع السياسة في الديمقراطيات الغربية ليس لهم تأثير على ما تتناوله الصحف، بل إنهم، في واقع الأمر، نتيجة احتكارهم المعلومة، قادرون على تسيير دفة النقاش في الاتجاه الذي يخدم هدفاً سياسياً لهم، أو على الأقل يخفف عنهم إحراجاً، يتعرضون له، ويوفر لهم وسيلة غير مباشرة، للانتقام من أطرافٍ تسببت بهذا الإحراج.
ومما لا شك فيه أن الأنظمة العربية التي لها مصلحة في تدمير حماس هي التي أفشلت جهود وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، فكان من اللازم كشفها ليس أمام شعوبها، فشعوبها تعرفها جيداً، ولكن، أمام العالم الذي وقف مشدوهاً أمام عجز دولةٍ عظمى، بحجم الولايات المتحدة عن وقف مذابح، تقشعر لها أبدان من لديهم ذرة من الإنسانية.
ومازال الأميركيون يتذكرون أن وزير الخارجية الأسبق، كولن باول، كان بمكالمة تلفونية يجبر إسرائيل على الانسحاب الفوري من خان يونس أو رفح، أو أي مكان آخر بعد ساعات من اقتحامه، فكيف يعجز كيري عن التأثير على إسرائيل، وقد توجه بنفسه إليها.
وليس من السهل تصديق أن الولايات المتحدة لم تكن ترغب في التوصل إلى وقف لإطلاق النار، فلو كان هذا صحيحاً لما غامرت واشنطن بإرسال وزير خارجيتها في مهمة تريد إفشالها. فالرغبة في التدليل على الفشل تتنافى مع الطبيعة البشرية للفرد العادي، فما بالنا بالسياسي الذي لا رأسمال له سوى تحقيق النجاح.
ولا نريد، هنا، أن نشارك في الاستخفاف الدائم بالعقول، ونقول إن إسرائيل قادرة على تحدي الإدارة والإرادة الأميركيتين معاً. ولكن، من الواضح أن إسرائيل قادرة على إقناع الإدارة الأميركية بما تريد، وتوجيهها في الوجهة التي تريد. وليس أسهل على إسرائيل لتحقيق ذلك في موضوع غزة من الاستدلال برغبات دول عربية مجاورة، في عدم إيقاف الحرب، قبل تركيع حركة حماس.
هل ينجحون؟
ولكن، على الرغم من اتفاق باحثين أميركيين كثيرين على حقيقة التحالف الجديد، بين إسرائيل وبعض الأنظمة العربية، إلا أن التشكيك مازال سائداً في إمكانية نجاحه في تحقيق أغراضه.
وتتضمن ورقة بحثية، نشرتها مجموعة سوفان جروب، على موقعها الإلكتروني، أن حماس ستواجه صعوبات جمة في السنوات المقبلة، بسبب تغيير خارطة تحالفاتها، بعد فقدانها إيران وسورية والسعودية ومصر، جراء متغيرات الربيع العربي.
لكن، من الصعب على إسرائيل مهما كان حجم الدعم العربي السياسي لها أن تفرض حلاً عسكريا في غزة، وأقصى ما يمكن أن يحققه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هو تهدئة مؤقتة، لن تستمر طويلاً من دون التوصل إلى حل سياسي للمشكلة من جذورها.
ويعتقد دبلوماسيون غربيون كثيرون أن الأطراف الجادة في التوصل إلى حل سياسي ناجح هي التي تستعين بالدوحة وأنقرة، أما من كان هدفه إعطاء إسرائيل وقتاً كافياً لتدمير حماس، عن طريق سياسة التعطيل والمماطلة، فعليه أن يتوجه إلى القاهرة.
وربما أن مشكلة وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أنه أراد إرضاء كل الأطراف، فخسر ثقة معظم الأطراف، ولم يفشل في تحقيق الهدنة بين نتنياهو وحماس، لكنه فشل في اختيار المكان المناسب لتحقيق الهدف المناسب. وبتعبير آخر، فإنه أخطأ في اختيار القاهرة مكاناً للاستعانة بأنقرة.