الحشد العراقي والحرس الإيراني
ولعل نتاج ما ذهب إليه نايتس هو خلاصة ما يذهب إليه محللون استراتيجيون، سياسيون وعسكريون، بعد متابعة الأحداث الجارية في العراق منذ يونيو/ حزيران 2014 وتحليلها؛ ففي وقت كان فيه تشكيل قوات (الحشد الشعبي) في العراق بذريعة إيقاف تقدم تنظيم الدولة الإسلامية والقوى الأخرى التي شاركت في الانتفاضة على حكومة المركز في بغداد، وبعد فتوى للمرجع الديني، علي السيستاني، بما سمي (الجهاد الكفائي)، وبمبادرة مباشرة من رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، وبعد مشورة إيرانية عاجلة، كانت هذه القوات والتي وصفت عبر خطابات الحكومة العراقية، أو قادة المليشيات حينها، بأنها قوات شبه عسكرية تابعة للمؤسسة الأمنية العراقية موجودة على الأرض، وأن كل مقاتليها هم من شيعة العراق.
لم تجرّب هذه المليشيات المتنوعة والمتعددة الولاءات في معارك حقيقية لحماية بغداد، حيث تعثرّت قوات تنظيم الدولة الإسلامية في مناطق عديدة، في أثناء تقدمها نحو العاصمة العراقية، نتيجة مقاومة أهالي هذه المناطق لهم، بسبب تقاطعهم مع أسلوب تعامل مقاتلي تنظيم الدولة مع سكان المناطق التي تقع تحت سيطرتها، ثم كانت عمليات محافظة ديالى العراقية، والتي اكتسبت فيها قوات (الحشد الشعبي) أسوأ ما يمكن من السمعة الميدانية، بسبب العمليات البشعة المرتبطة بالتطهير العرقي والديمغرافي، وذاك الكم الهائل من صور التمثيل بممتلكات الأهالي، وبسكان هذه المنطقة، حتى تداعت منظمات دولية وعربية، لتوجيه الانتقادات العاجلة، ومطالبة حكومة بغداد بإيقاف هذه الممارسات. لكن، أريد للحشد الشعبي أن يظهر قوة فعلية على الأرض، حشدت لها رسائل إعلامية مكثفة، مع تهميش متعمد للجيش العراقي، كان قبيل وخلال الاستعدادات لمعركة تكريت، ولإكمال الصورة، صورة القوة، كان رفيقهم في هذا المشهد ظهور رسمي وعلني وقوي للقوات الإيرانية، ممثلة بقطعات من الحرس الثوري الإيراني، وبقيادات ميدانية رفيعة، تقدمها الجنرال قاسم سليماني.
لم يرق لقيادات في الجيش العراقي التي تخرجت فعلاً من حاضنات الجيش السابق الأسلوب الذي تم به إبراز قوات (الحشد الشعبي)، وفي الوقت نفسه، تهميش دور قطعاتهم ودورهم في قيادة العمليات، خصوصاً في ظل عدم التزام (قوات الحشد) بضوابط، تنظم عملها مع وزارتي الداخلية والدفاع العراقيتين، الأمر الذي لم يكترث إليه أحد، سواء في المؤسسة السياسية، أم في القيادة العامة للقوات المسلحة، بسبب الهيمنة الإيرانية على قرار المؤسسة السياسية، وبسبب تهميش دور القادة العراقيين في المؤسسة العسكرية التي يرأسها رئيس الوزراء العراقي الموصوف في مواضع كثيرة بالضعف، أمام حجم النفوذ والقوة الإيرانية والمليشياوية المتحكمة بالمشهد.
وعلى الرغم مما فعلته قوات (الحشد الشعبي) في ديالى وفي تكريت ومدن محيطة بها، إلا أن الحكومة العراقية، وحتى المرجعية الدينية في النجف، انبروا للدفاع عن هذه القوات، ووصفوا ما يقدم من أدلة مصورة، أو من تصريحات متلفزة لقادة مليشيات متنفذة، ضمن هذه القوات بـ (الحملة المسعورة).
ويفرض المنطق السياسي والأمني والعسكري في موضوع (الحشد الشعبي) أن تعيد الحكومة العراقية النظر في مرجعية هذه القوات، خصوصاً وأنها مرفوضة تماماً من فئات كبيرة ومتعددة من أبناء الشعب، وتمثل عنصر تهديد مباشر، أو شبه مباشر، لدول في الإقليم العراقي، وكذلك ما تراه واشنطن ودول غربية عديدة من خطر حرب وشحناء طائفية، سببتها وستسببها ممارسات هذه القوات بشكل متعمد، لإحداث تغيير ديمغرافي واضح في مناطق تمثل مناطق مانعة للتمدد الإيراني في شمال العراق العربي، باتجاه مناطق النفوذ التركي، واستكمالاً لمناطق نفوذ طهران في سورية ولبنان، لكن هذه الحكومة، وبسبب عاملين رئيسيين، التأثير الإيراني المباشر، والقوة الفعلية والهيمنة الأمنية للمليشيات المكوّنة لقوات (الحشد الشعبي) لم تتمكن من دمج هذه القوات بالجيش العراقي، أو بالمؤسسة الأمنية المرتبطة بوزارة الداخلية، وإنما اكتفى حيدر العبادي بـ (القول) "إنها سترتبط بقرارات القائد العام للقوات المسلحة"، والفرق بين الأمرين كبير .
ترتبط النظرة المستقبلية لقوات (الحشد الشعبي) في العراق برؤية واستراتيجية إيرانية دقيقة جداً، أساسها أن تكون هذه القوات، وبهذا الاسم تحديداً، هي المكافئ لقوات (الحرس الثوري) في إيران، والذي يعد القوة العقائدية والجيش المخلص للمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران، ولديه قيادة مستقلة تتلقى أوامرها مباشرة منه، كما لا يرتبط تنظيمياً بالقوات المسلحة الإيرانية، وهي الحالة التي تصرّ حكومة العبادي وقيادة (الحشد الشعبي) على تثبيتها في العراق، وبموجب تقديرات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، فإن الحرس الثوري الإيراني يتألف من 350 ألف عنصر، فيما يرى معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن أن عدد أفراد (الحشد الشعبي) المزمع بلوغه في العراق هو 120 ألفاً.
تبرز مقاربة بسيطة بين التنظيمين أوجه التشابه العقائدي والتنظيمي، إضافة إلى موجبات التأسيس، فـ(الحرس الثوري الإيراني) شرّع له بمرسوم من آية الله الخميني، بعد إطاحة شاه إيران، ووضع بموجب هذا المرسوم تحت امرة الخميني مباشرة. وفي العراق، شرّع لتأسيس (الحشد الشعبي) بفتوى للإمام علي السيستاني، وبات قرار بقائه مرهوناً بقرار منه، وهو ما لن يحدث، بسبب طبيعة الفتوى وأسبابها (جهاد كفائي). ثم أريد، في الحالة الإيرانية، أن يكون الحرس موازياً ومكافئاً للجيش الإيراني الذي كان الخميني يعتقد أن كثيرين من ضباطه لا يتوافقون مع الثورة، وممارساتها العنيفة بعد سقوط الشاه. وفي العراق الحال نفسه؛ حيث تنظيم (الحشد) مواز للقوات المسلحة، وليس جزءاً منها، مع تعميم فكرة ضعف قدرات الجيش العراقي العقائدية وإمكانية خيانة قادته وضباطه، لصالح قلب نظام الحكم في بغداد.
عنصران آخران ضمن عناصر كثيرة تقود إلى هذا الاستنتاج الميداني، هما الحماس الطائفي والولاء الأعمى لعناوين طائفية، ليس لها علاقة بالوطنية المحضة، ثم التمدد ومحاولة السيطرة على مناطق الدولة والاستعداد لما يمكن أن تكلف به خارج الدولة، والتجارب في هذا العنصر بالنسبة لإيران كثيرة، لكنها فيما يخص (الحشد الشعبي) باتت واضحة، فطريقة نشر قوات هذا التنظيم؛ (ديالى المحاددة لإيران وإقليم كردستان، وصلاح الدين القريبة من حدود النفوذ التركي، والأنبار المتاخمة للمملكة الأردنية وسورية، ثم النخيب التي لا تبعد سوى 20 كلم عن حدود المملكة العربية السعودية .. إلخ).
التجربة العراقية في استنساخ التجربة الإيرانية، وبتوجيه من طهران، هي استكمال طبيعي للمشروع الإيراني، المتمثل بتشكيل قوى لا تأتمر بإمرة الإرادة الوطنية، كما حال حزب الله اللبناني، وحركة أنصار الله الحوثية في اليمن، والكل يعلم الآن ماهية هذه التنظيمات وتأثيرها على واقع أوطانها، ثم المتغيرات الإقليمية التي تحدثها، بتوجيه إيراني مركزي محكم.
ستكون المرحلة المقبلة، إن لم تحدث متغيرات تدعم التغيير في العراق نحو موضوع إيقاف التبعية المطلقة لطهران، انقلاباً سياسياً، أو أمنياً، إن دعت الحاجة، لصالح قيادات (الحشد الشعبي)، وسيكون لهذه القيادات مواضع في قمة هرم البيت السياسي والأمني العراقي، سيكون لقراراتها أثر سلبي كبير على مستقبل العراق خصوصاً، وعلى أمن ومستقبل المنطقة الممتدة من المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي جنوباً، حتى تركيا وإقليم كردستان العراق شمالاً، ثم المملكة الأردنية ولبنان الرسمي وسورية، بشكل عام.
مراقبو الاستراتيجيات في الأنظمة العربية مطالبون باتخاذ أهم القرارات الحكيمة وأسرعها وأجدرها لمعالجة هذا المخطط الكبير، لتغيير طبيعة المنطقة ومراكز القوة والهيمنة والنفوذ فيها، ولعل واجب المسؤولية يحتم على الجميع التحرك صوب إعادة التوازنات إلى وضعها الطبيعي، وبشكل الدول الرسمي، وإخراج المنطقة من عقدة المليشيات والجيوش الطائفية الموازية للجيوش الوطنية.