الحكومة التونسية المؤجلة: المشيشي يبدّد الوقت لفرض أمر واقع؟

10 اغسطس 2020
تدخل مشاورات المشيشي اليوم أسبوعها الثالث (الأناضول)
+ الخط -

تدخل مشاورات الحكومة التونسية الجديدة، اليوم الإثنين، أسبوعها الثالث (من جملة شهر واحد هي المهلة الدستورية المحددة لتشكيل الحكومة). وعلى الرغم من ذلك، لم يوضح الرئيس المكلف، هشام المشيشي، أي تفاصيل عن هذه الحكومة بعد؛ بنيتها وتركيبتها ما إذا ستكون حزبية أو مستقلة، وبرنامجها وأهدافها، وقد ظلّ على مدى أسبوعين يجري حوارات شكلية مع الأحزاب لم تتطرق إلى أي تفاصيل تدخل في صلب الموضوع، إلى جانب لقاءات بشخصيات وطنية أو رؤساء سابقين. ويثير هذا السير البطيء بعض المخاوف التي كانت أُثيرت منذ تعيين المشيشي من طرف الرئيس التونسي قيس سعيّد، من أنّ النية قد تكون وضع الجميع أمام الأمر الواقع في آخر لحظة، واتباع استراتيجية تبديد الوقت إلى آخر ساعة من عمر المهلة الدستورية.



مخاوف من أن تكون النية وضع الجميع أمام الأمر الواقع في آخر لحظة

ويبدو من الغريب ألا يدخل المشيشي حتى الآن في صلب الموضوع، خصوصاً أمام حجم الخلافات التي يحتاج إلى وقت طويل للحدّ منها، وبحث صيغ توافقية على قاعدة أو أرضية دنيا يلتقي حولها الفرقاء، إلا في حال كان حاملاً لمشروع مفاجئ سيضعه على الطاولة أمام الجميع في ما تبقّى من عمر المفاوضات، أو ساعياً لتبريد الأجواء الساخنة التي خلفتها جلسة سحب الثقة من رئيس البرلمان رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، وتبادل الاتهامات بين الأطراف كلها. ولكن هذا المسار البطيء بدأ يُفقد المشيشي دعم مناصريه حتى، إذ أشار القيادي في "التيار الديمقراطي"، نبيل الحجّي، في تصريح لإذاعة "موزاييك" المحلية، إلى وجود بطء في مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة، إذ إنّ المشيشي استهلك نصف الفترة الزمنية المحددة لذلك. وأعرب الحجي عن تخوّفه من أن يكون الأمر مقصوداً لوضع الجميع أمام الأمر الواقع.

ومن جانبه، دعا زهير المغزاوي، الأمين العام لـ"حركة الشعب"، النائب عن الكتلة الديمقراطية، المشيشي، إلى "عدم تكرار سيناريو الحبيب الجملي في تشكيل الحكومة وعدم إضاعة الوقت والدخول بسرعة في صلب الموضوع". وقال المغزاوي في تصريح لإذاعة "موزاييك": "في حركة الشعب نعتقد أنّ النهج الذي اتبعه المشيشي بالتشاور مع مختلف الأطراف والاطلاع على مختلف وجهات النظر سليم، ولكن المشكلة هي إضاعة الكثير من الوقت"، مضيفاً أن "عملية تشكيل الحكومة ليست سهلة في ظلّ مشهد متشنج ومشتت، والمشيشي يعتقد أنّ ذلك سهل، ولذلك ننصحه بالدخول بسرعة في صلب الموضوع. فالأسبوع الماضي لم ندخل في المهم وكان أسبوع انطباعات، ولذلك على المشيشي أن يُسرع لأنّ الأصعب ينتظره خلال الأيام المقبلة، أي لناحية شكل الحكومة التي سيقترحها وحزامها البرلماني والسياسي، وهي مسائل صعبة في ظلّ الوضع الموجود على الساحة السياسية". ورأى أن "ما يحدث الآن يذكرنا بما حصل مع الحبيب الجملي"، مضيفاً: "أتمنى أن يكون المشيشي واعياً لما حدث في زمن الجملي ومدركاً لقيمة الوقت، خصوصاً في ظلّ الوضع الصعب الذي تمرّ به البلاد".

ويبدو أنّ الجميع أصبح متخوّفاً من المسار الذي يسلكه المشيشي، فبالإضافة إلى ما ذكرته قيادات "التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب"، المختلفة مع حركة "النهضة" وحزب "قلب تونس"، حذّر رئيس "النهضة" راشد الغنوشي من خطورة إقصاء الحركة و"قلب تونس" من الحكومة، معتبراً أنّ "حكومة لا تتضمن الحزبين؛ الأول والثاني في البرلمان، هي ضدّ الديمقراطية".


يبدو أنّ الجميع أصبح متوجساً أو متخوفاً من المسار الذي يسلكه المشيشي

واعتبر الغنوشي من المقر المركزي لحركة "النهضة" وبحضور قيادات الحركة ومناضليها أخيراً أنّ "من يفكرون في أنّ البلاد يمكن أن تسير من دون النهضة، وأنّ الحكومة يمكن أن تتشكّل من دون الحركة، تفكيرهم إقصائي ولا يفكرون في مصلحة البلاد"، مشيراً إلى أنهم "ضعيفون ويخشون منافسة النهضة"، في إشارة منه إلى أحزاب "التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب" و"تحيا تونس" و"الدستوري الحر"، التي دعت المشيشي إلى استبعاد "النهضة" من التشكيل الحكومي. وتساءل الغنوشي مستنكراً: "هل هناك ديمقراطية تقصي الحزب الأول من السلطة، ثمّ يُقصى الحزب الثاني... فكيف ستكون الديمقراطية، مع الحزب العاشر؟".

ووجّه النائب عن "ائتلاف الكرامة"، عبد اللطيف العلوي، بدوره، رسالة مباشرة إلى المشيشي، في منشور على صفحته في موقع "فيسبوك"، قائلاً: "بقطع النظر عمّن جاء بك ولماذا جاء بك، (نحن نعرف وأنت تعرف وربّي يعرف)، فإنك لن تحكم إلا بالبرلمان، هو وحده من سيمنحك الثقة، وهو وحده من يستطيع أن يسقط حكومتك، وهو وحده من يقدر على تعطيل عملها". وأضاف موجهاً حديثه إلى الرئيس المكلف: "لا تستمع إلى نصائح الفوضويين، الذين يقولون لك: دس على البنزين ولا يهمّك، سيقبلون بأي حكومة من أجل إنقاذ كراسيهم!". وتابع العلوي: "قد يقبلون بأي حكومة نعم، ولكنها لن تكون قادرة على الحكم، وقد يمنحونك الثقة، ولكنهم لن يمنحوك الأمان والاستقرار".

واعتبر العلوي أنّ المشيشي "أُتيحت له فرصة لا تتكرّر كثيراً في التاريخ لمن كان في مثل وضعه، مستقلاً، حديث عهد بالسياسة، بلا تاريخ (سياسي)، ولا ظهر حزبيّ يسنده"، بحسب توصيفه. ولفت إلى أنّ أطرافاً لم يسمها "تريد من المشيشي أن يكون مجرّد موظّف سامٍ لدى القصر، ولكن بإمكانه ومن مصلحته ومن مصلحة البلد أن يكون وفياً لنفسه وللصلاحيات التي خوّلها له الدستور"، مختتماً منشوره بالقول: "لا إقصاء، لا حكومة كفاءات مغشوشة، لا لسيطرة الأقليات بأي حجة كانت، يريدونك مجرّد كومبارس، ونريدك أن تلعب دور البطولة، فانظر إلى ما ينفعك وينفع بك الناس".


الغنوشي: من يفكرون في أنّ البلاد يمكن أن تسير من دون النهضة، لا يفكرون في مصلحة البلاد

ولن تكون كل هذه المعطيات خافية على المشيشي، فهو ابن الإدارة التونسية، وشغل مناصب عديدة فيها، من بينها مستشار أول لدى رئيس الجمهورية مكلفاً بالشؤون القانونية، ورئيس ديوان بوزارات المرأة والنقل والصحة والشؤون الاجتماعية، والمدير العام للوكالة الوطنية للرقابة الصحية والبيئية للمنتجات. كذلك عمل خبيراً مدققاً في اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد، وأخيراً وزيراً للداخلية، وهو ما يفيد بأنّ الرجل تقلّب بين كل الملفات، وخبِر صنع القرار السياسي في الغرف الخلفية، وله معرفة معمقة بتاريخ الدولة التونسية وقوانينها وخفاياها. والأكيد أنّ تجربة الأشهر القليلة في الداخلية قد منحته معرفة واسعة بالوضع الحقيقي والدقيق للبلاد، وهو ما يمكنه نظرياً من حسن قراءة الأوضاع على حقيقتها، وتقدير موازين القوى، واستشراف التطورات الممكنة. وتمنحه استقلاليته القدرة على بناء نسيج حكومي وسياسي يمكن أن يتيح له لعب دور فعلي في المشهد السياسي التونسي، على الرغم من أنه ليس مسنوداً من أي حزب مثل سلفه إلياس الفخفاخ، وهي نقطة ضعفه التي يمكن استغلالها في الاتجاهين.