الحكومة الثائرة
منذ اليوم الأول، وبدعوات حزبية وتنظيمية وحتى فردية، بدأت جموع الناس تتحرك في ثورة غضب تلقائية وصادقة ضد القرار الأميركي الجديد، وهو أمر مألوف ومفهوم ويتناسب مع حجم المصيبة وكارثيتها، ولكن ما ليس مفهومًا، لمن اعتاد موقف الحكومة الحاد من ظاهرة التجمهر بشكل عام، والتجمهر المناهض للاحتلال بشكل خاص، هو هذا الانقلاب المفاجئ الذي لم يقتصر على سكوتها عن التظاهرات وعدم تجريمها، وإنّما تجاوزه إلى حدّ الدعوة إليها وتسويقها إعلاميًا.
موقف الحكومة الأردنية الرسمي من القرار الأميركي جاء واضحًا برفضه، ومشاركة الأردن في مؤتمر القمة الإسلامية أكّد ذلك وعزّزه. لكن إلى أي حدّ يتشابه الموقفان الرسمي والشعبي الرافضان للقرار، خاصة وأنّ الموقف الرسمي ترافقه كومة من التساؤلات حول أسباب عدم اتخاذ خطوات عملية تتناسب معه، من باب ضرورة انسجام تصريحات الحكومة مع واقع علاقتها مع الكيان الصهيوني على الأرض.
لا يتطلب الأمر أن تكون متخصصًا بالعلوم السياسية لتطرح سؤالًا حول أسباب دعوة الناس إلى التجمهر، ولا يحتاج أن تكون خبيرًا أو محللًا سياسيًا لتستنتج أنّ ما يُغنّي له الشعب غير ما تعزف لأجله حكومته.
الحكومة التي تجتمع، ظاهريًا، مع شعبها في سلة واحدة، والتي تسير معه جنبًا إلى جنب في تظاهراته اليوم، هي في الحقيقة بعيدة كل البعد عن مطالب الجماهير وشعاراتها المرفوعة في الشارع؛ ففي حين تهتف الجموع بقدس عربية موحدة لفلسطين حرة كاملة، تنادي الحكومة بقدس شرقية عاصمة لدولة مجتزأة على بقايا أراضٍ خلّفها احتلال نما وتمدد على مدار عقود. وفي حين تطالب الجماهير بإلغاء جميع الاتفاقات الموقعة مع العدو المحتل، وعلى رأسها اتفاقية وادي عربة، ترى الحكومة فيه شريكًا لا بد منه، وتبحث عن مخرج لاستئناف سلامها معه.
لن يبقى الحال على ما هو عليه اليوم، فلا بد من أن تتحرك الأمور باتجاه ما، وإذا ما كانت الخطوات المقبلة تلائم ما سعت إليه الحكومة الأردنية حين استخدمت شعبها ورقة لدعم موقفها في تصوّرها لما يجب أن تكون عليه صفقة القرن، فسوف نشهد انقلابًا جديدًا لها على الجماهير الثائرة التي لم تحقق شيئًا ممّا تنادي به، بل وربما نشهد عرسًا إعلاميًا بانتصار وطني حققته الحكومة على طريق التحرير.
إنّ استمرار الحكومة بالترويج لما يحدث في الشارع الأردني على أنّه التفاف واصطفاف جماهيري حولها في مساعيها الدولية لإعلان القدس الشرقية عاصمة لشبه دولة على أراضٍ من الضفة الغربية، فيه من الاستخفاف والتضليل ما يتجاوز حدّ غض الطرف عنه أو تمريره تحت شعار وحدة الصف في وجه القرار الأميركي.
وخلاصة الأمر، على الحكومة الأردنية أن تعلم أن ارتداءها ثوب الثورة، على هيئة المشاركة في تظاهرات الشارع، غير ملائم لها، فالتظاهر والاعتصام كانا ولا يزالان أدوات الشعوب في تعبيرها عن غضبها واحتجاجاتها، أمّا الحكومات الثائرة بحق فلها أدواتها المغايرة.