16 فبراير 2020
الحلم الخميني الذي لن يكتمل
يقوم الحلم الخميني، وهو ذو جذور قومية، على تصور إيران دولة مركزية للشيعة في العالم، تمثل مصالحهم، وتمسك، من خلالهم، شبكة نفوذ تتجاوز قدراتها الخاصة وحدودها، ولتحقيقه، عمد الخميني، أولاً، إلى ابتداع نظرية ولاية الفقيه، لملء الفراغ المركزي الذي تركته غيبة الإمام في العقيدة الشيعية، والذي ترتب عليه، سابقاً، خفوت تأثير المعتقد سياسياً وتفرق أتباعه، حيث توفر ولاية الفقيه إمكانية جذب وتجميع ومركزة قوة الجماعة الشيعية في أرجاء العالم كافة، وإعادة توزيعها واستخدامها، وفق الحاجة وأولويات المشروع.
ولجعل هذه النظرية الفكرية العقائدية مشروعاً إجرائياً قابلاً للتنفيذ، وضع الخميني ما يسمى مبدأ تصدير الثورة، والذي يعني، كما تثبت الوقائع، بعد ربع قرن من انتصار الخمينية، أن المقصود به إيقاظ الجيوب الشيعية، حيثما وجدت خارج إيران، ودفعها إلى التنابذ مع محيطها، وعزلها اجتماعياً وثقافياً، من جهة، واستقطابها وإلحاقها سياسياً واقتصادياً بالمركز المتمثل بالولي الفقيه، من جهة أخرى، مع الحرص الشديد على عدم انسلاخ هذه الجيوب أو انفصالها عن محيطها بشكل تام، بل العمل على الاندماج مع الوقاية، وبما يتيح لتلك الجيوب التأثير بشكل دائم في المجتمعات والدول التي تعيش داخلها، تحت غطاء المواطنة وحقوق الأقليات وغيرها. وبعبارات أخرى، تبقى هذه الجماعات الشيعية بمثابة أذرع منفصلة، تمارس، من خلالها، طهران التأثير والنفوذ داخل كل بلد ومجتمع، من دون أن تضطر إلى المواجهة المباشرة، المكلفة وغير الضرورية.
إن عناصر عديدة لهذا المشروع مستقاة من الثقافة الفارسية القديمة، فالولي الفقيه، أو ظل الله على الأرض، هو "كيو مرث" المعروف في الديانات الفارسية القديمة، ويعني حرفياَ الحي الناطق، أو من يتلقى الوحي والأوامر من الله مباشرة، وهو ذاته ما تم تحويره بعد دخول الفرس في الإسلام، ليصبح الإمام المعصوم. أما مفهوم الاندماج مع الوقاية فهو أحد مبادئ الحكمة الزرادشتية الرئيسية، المعروف بالتقية. والأمر عينه ينطبق على أسلوب العمل العصاباتي، واعتماد منهج الاغتيال والترهيب لبسط النفوذ السياسي، والمعروف في ثقافة فارس وثقافتها منذ أزمنة أبعد بكثير من الزمن الذي ظهر فيه الحشاشون في قلعة آلموت، مطلع الألفية الثانية شمال إيران، بقيادة حسن الصباح.
عرقلت الحرب العراقية مشروع الخميني، وبعد رحيله وصعود الإصلاحيين القوميين، خفت وهج المشروع عقداً آخر، قبل أن يصعد الخمينيون المتشددون مجدداً، ويتقدموا في الفراغ والفوضى اللذيْن أحدثهما سقوط الاتحاد السوفياتي، وتزعزع النظام السياسي العربي، بعيد احتلال الكويت، ثم سقوط العراق، وتجاذبات وتناقضات مرحلة الحرب على الإرهاب، ليحققوا مكاسب كبيرة في العراق وأفغانستان والبحرين واليمن ولبنان، ويحكموا قبضتهم على النظام السوري، الذي أصبح رهينة الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، سواء المجلوبة عبر الحدود، أو التي تم تشكيلها من علويين وشيعة سوريين، مرتبطين بالولي الفقيه عقائدياً وسياسياً واقتصادياً.
لكن، على الرغم من كل تلك النجاحات، فإن المشروع الخميني يعاني، اليوم، من معضلتين، يمكن باستمرارهما أن تقضيا عليه في المدى المنظور، الأولى ذاتية تتمثل في عجزه، حتى الآن، عن إنتاج السلاح النووي، وهو المظلة الحامية للمشروع الهش والمنتشر على رقعة جغرافية واسعة، لا يمكن الدفاع عنها بالإمكانات والوسائل التقليدية. والمعضلة الثانية موضوعية، تتمثل في بزوغ ظاهرة الجماعات الدينية السنية المتشددة بمواجهة الجيوب الشيعية، واتخاذها من شعار مقاومة التمدد الايراني شعاراً لها، ما جعل من مسألة دعم وتعزيز تلك القلاع المتقدمة نوعاً من النزيف المستمر للاقتصاد والقوة الإيرانية من ناحية. ومن ناحية ثانية، منعت الجماعات الشيعية من أداء دورها الوظيفي في المشروع، والمتمثل بفرض نوع من النفوذ الخفي لإيران، في المجتمعات والدول التي تعيش فيها، إذ ضربت الجماعات السنية المتشددة، غير التابعة للأنظمة الرسمية، نوعاً من الحصار والرقابة على الأفراد والجماعات الشيعية، حيثما وجدوا.
تسبب مناخ الاستقطاب المذهبي الذي أشاعته الخمينية عن قصد، لتفزيع الشيعة ودفعهم نحو إيران، في توالد التنظيمات السنية المتشددة التي تحمل أفكاراً ومشاريع امبراطورية مذهبية، مضادة للمشروع الخميني، لكنها متوالدة عنه، ومعتمدة عليه في بقائها وانتشارها، لكن حظ هذه المشاريع لن يكون أفضل من حظ الخمينية في النجاح، لأن الادعاءات التمييزية بين البشر التي تقوم عليها باطلة، وغير منطقية، والمستقبل السوي والصحي لمجتمعات الشرق الأوسط لن يتم بناؤه، إلا انطلاقاً من الأساس الإنساني العام الذي بنيت عليه المجتمعات المستقرة والمزدهرة في عالمنا المعاصر، أي المواطنة المتساوية في ظل قانون عادل، وهو ما سيقرّ به، ويحتكم إليه المتحاربون في النهاية، شأنهم شأن أسلاف الشعوب المستقرة اليوم، والتي عاشت، قبل ذلك، أجواء الصراع الديني والمذهبي والعرقي قروناً، ولم تجد سبيلها إلا بعد أن حطمت الحرب أوهامها الخاصة عن تميزها وتفوقها وامتلاك الحقيقة المطلقة.
ولجعل هذه النظرية الفكرية العقائدية مشروعاً إجرائياً قابلاً للتنفيذ، وضع الخميني ما يسمى مبدأ تصدير الثورة، والذي يعني، كما تثبت الوقائع، بعد ربع قرن من انتصار الخمينية، أن المقصود به إيقاظ الجيوب الشيعية، حيثما وجدت خارج إيران، ودفعها إلى التنابذ مع محيطها، وعزلها اجتماعياً وثقافياً، من جهة، واستقطابها وإلحاقها سياسياً واقتصادياً بالمركز المتمثل بالولي الفقيه، من جهة أخرى، مع الحرص الشديد على عدم انسلاخ هذه الجيوب أو انفصالها عن محيطها بشكل تام، بل العمل على الاندماج مع الوقاية، وبما يتيح لتلك الجيوب التأثير بشكل دائم في المجتمعات والدول التي تعيش داخلها، تحت غطاء المواطنة وحقوق الأقليات وغيرها. وبعبارات أخرى، تبقى هذه الجماعات الشيعية بمثابة أذرع منفصلة، تمارس، من خلالها، طهران التأثير والنفوذ داخل كل بلد ومجتمع، من دون أن تضطر إلى المواجهة المباشرة، المكلفة وغير الضرورية.
إن عناصر عديدة لهذا المشروع مستقاة من الثقافة الفارسية القديمة، فالولي الفقيه، أو ظل الله على الأرض، هو "كيو مرث" المعروف في الديانات الفارسية القديمة، ويعني حرفياَ الحي الناطق، أو من يتلقى الوحي والأوامر من الله مباشرة، وهو ذاته ما تم تحويره بعد دخول الفرس في الإسلام، ليصبح الإمام المعصوم. أما مفهوم الاندماج مع الوقاية فهو أحد مبادئ الحكمة الزرادشتية الرئيسية، المعروف بالتقية. والأمر عينه ينطبق على أسلوب العمل العصاباتي، واعتماد منهج الاغتيال والترهيب لبسط النفوذ السياسي، والمعروف في ثقافة فارس وثقافتها منذ أزمنة أبعد بكثير من الزمن الذي ظهر فيه الحشاشون في قلعة آلموت، مطلع الألفية الثانية شمال إيران، بقيادة حسن الصباح.
عرقلت الحرب العراقية مشروع الخميني، وبعد رحيله وصعود الإصلاحيين القوميين، خفت وهج المشروع عقداً آخر، قبل أن يصعد الخمينيون المتشددون مجدداً، ويتقدموا في الفراغ والفوضى اللذيْن أحدثهما سقوط الاتحاد السوفياتي، وتزعزع النظام السياسي العربي، بعيد احتلال الكويت، ثم سقوط العراق، وتجاذبات وتناقضات مرحلة الحرب على الإرهاب، ليحققوا مكاسب كبيرة في العراق وأفغانستان والبحرين واليمن ولبنان، ويحكموا قبضتهم على النظام السوري، الذي أصبح رهينة الميليشيات الشيعية التابعة لإيران، سواء المجلوبة عبر الحدود، أو التي تم تشكيلها من علويين وشيعة سوريين، مرتبطين بالولي الفقيه عقائدياً وسياسياً واقتصادياً.
لكن، على الرغم من كل تلك النجاحات، فإن المشروع الخميني يعاني، اليوم، من معضلتين، يمكن باستمرارهما أن تقضيا عليه في المدى المنظور، الأولى ذاتية تتمثل في عجزه، حتى الآن، عن إنتاج السلاح النووي، وهو المظلة الحامية للمشروع الهش والمنتشر على رقعة جغرافية واسعة، لا يمكن الدفاع عنها بالإمكانات والوسائل التقليدية. والمعضلة الثانية موضوعية، تتمثل في بزوغ ظاهرة الجماعات الدينية السنية المتشددة بمواجهة الجيوب الشيعية، واتخاذها من شعار مقاومة التمدد الايراني شعاراً لها، ما جعل من مسألة دعم وتعزيز تلك القلاع المتقدمة نوعاً من النزيف المستمر للاقتصاد والقوة الإيرانية من ناحية. ومن ناحية ثانية، منعت الجماعات الشيعية من أداء دورها الوظيفي في المشروع، والمتمثل بفرض نوع من النفوذ الخفي لإيران، في المجتمعات والدول التي تعيش فيها، إذ ضربت الجماعات السنية المتشددة، غير التابعة للأنظمة الرسمية، نوعاً من الحصار والرقابة على الأفراد والجماعات الشيعية، حيثما وجدوا.
تسبب مناخ الاستقطاب المذهبي الذي أشاعته الخمينية عن قصد، لتفزيع الشيعة ودفعهم نحو إيران، في توالد التنظيمات السنية المتشددة التي تحمل أفكاراً ومشاريع امبراطورية مذهبية، مضادة للمشروع الخميني، لكنها متوالدة عنه، ومعتمدة عليه في بقائها وانتشارها، لكن حظ هذه المشاريع لن يكون أفضل من حظ الخمينية في النجاح، لأن الادعاءات التمييزية بين البشر التي تقوم عليها باطلة، وغير منطقية، والمستقبل السوي والصحي لمجتمعات الشرق الأوسط لن يتم بناؤه، إلا انطلاقاً من الأساس الإنساني العام الذي بنيت عليه المجتمعات المستقرة والمزدهرة في عالمنا المعاصر، أي المواطنة المتساوية في ظل قانون عادل، وهو ما سيقرّ به، ويحتكم إليه المتحاربون في النهاية، شأنهم شأن أسلاف الشعوب المستقرة اليوم، والتي عاشت، قبل ذلك، أجواء الصراع الديني والمذهبي والعرقي قروناً، ولم تجد سبيلها إلا بعد أن حطمت الحرب أوهامها الخاصة عن تميزها وتفوقها وامتلاك الحقيقة المطلقة.