قبل أن تنتشر أحواض الاستحمام في كثير من البيوت الخاصة، كان كل حي صغير في تونس فيه حمام للعموم على الأقل. إذ لعب الحمام في الحضارة العربية الإسلامية أدواراً عدة على المستويين الاجتماعي والديني، وقد مثل الجامع والسوق إلى جانب الحمّام مراكز أساسية لبلورة التوجهات والقيم الاجتماعية.
والمتأمل في خريطة المدينة العتيقة في تونس العاصمة سيلاحظ أن أغلب حمّامات المدينة العتيقة يجاورها مسجد، وهي تعكس جزءا مهما من موروثها الثقافي، من أبرزها "حمام الذهب" و"حمام صاحب الطابع" و"حمام الصيودة" و "حمام سيدي محرز" والقائمة طويلة.
لقد تغيرت على مر الأزمان العقلية الشعبية في تعامل النساء مع الحمام، الذي اعتبر فضاء للعبور من الدنس إلى الطهارة، إذ اتسمت فترة بدايات الحضارة الإسلامية بالتشديد خاصة على النساء ونهيهن عن زيارة الحمام خشية الوقوع في المحرم، حتى ذهب بعض الفقهاء إلى تحريمه واعتبار الاغتسال فيه من الكبائر، نظراً لما يرتبط به من "كشف العورات".
لكننا نلاحظ، رغم ذلك التحريم، أنّ الحمّامات كانت عنصرًا هامًا في العمارة الإسلامية، الأمر الذي أكسبها رمزية كبيرة ووهبها دورا دينيا يجنب الوقوع في الذنب وارتكاب المعاصي.
تحرص النسوة في تونس حتى اليوم، خاصة من الفئات المتوسطة والفقيرة، على زيارة الحمّامات الشعبية بانتظام، بوصفها إحدى العادات المتوارثة منذ أجيال، والتي لم تندثر في عصر العولمة رغم انتشار أحواض الغسل داخل البيوت، إلى جانب انتشار الجاكوزي والساونا، ويرجع هذا إلى الثمن الزهيد لهذه الحمّامات، كما تلعب الحمّامات دورا اجتماعيا هاما كفضاء يساعد على نسج العلاقات بين الأشخاص ويوفر المجال لتجمع النسوة الراغبات في تجاذب الأحاديث ومعرفة تفاصيل ما يجد خلال الأسبوع من أحداث ووقائع.
زيارة الحمام فرصة للترويح عن النفس وتغيير إيقاع الحياة السريعة خاصة بالنسبة للفقيرات أو ذوات الدخل المحدود والمتوسط ، وقد أصبح التردد عليه بالنسبة للبعض بمثابة جرعة المخدر التي ليس بالإمكان الاستغناء عنها، فهو بمثابة العالم المنفصل عن المحيط الخارجي الذي تجد فيه المرأة حريتها وتمارس فيه كامل أشكال التعبير عن الذات بحرية من خلال تعرية الجسد والصراخ وتنسم أخبار الآخرين. فالحمام فضاء يعج بالمشاهد الفرجوية والغريبة. لا تزال بعض النسوة يعتقدن بأن عالم الحمامات محكوم بأبعاد أسطورية، غارق في موج من الأبخرة والضباب الكثيف.
وارتباط الحمام بالأسطورة عريق جدا قدم ارتباط الذاكرة الشعبية بمضامين ذهنية غير عقلانية، فبالرغم من التطور العلمي والتكنولوجي وسط حضارة عقلانية، بقي الإنسان أسيرا للأسطورة التي تمثل جزءا أساسيا من الهوية الثقافية يتجاوز مدى تأثيرها وقدسيتها حد المعتقد. ورد في الأسطورة الشعبية عن "حمام الذهب" أنه "بلاع الصبايا" بمعنى مبتلع أو ملتهم الصبايا، وهو يعتبر من أعرق الحمامات ويقع في ضاحية باب سويقة الشعبية قرب جامع الولي الصالح سيدي محرز بن خلف.
لقد قيل بأنه كان مسرحا لاختفاء صبية جميلة ذات شعر طويل أسود فاتن في ظروف غامضة ومريبة. وقد تواترت عدة روايات داخل الأسطورة عن سبب ذلك الاختفاء أكثرها إثارة أن أما حمقاء أنزلت ابنتها داخل فتحة أرضية في قاع حمام لتبحث لها عن كنز.
وكانت الصبيّة كلما مدت أمها بسبائك الذهب تطلب منها هذه الأخيرة المزيد رغم إخبارها إياها بأنّ الحمّام سيطبق عليها وأنّ الجان الأحمر سيخطفها ويبقيها عنده تحت الأرض، واستمر ذلك إلى أن أطبق الحمّام على جسد الصبيّة ولم يترك منها سوى شعرها الذي ينبت كل يوم في الأسبوع الذي يصادف يوم ابتلاعها.
أما الرواية الثانية فهي القائلة بأن شابا ثريا أغرم بابنة عم له فائقة الجمال وخطبها من أهلها وقرر الزواج بها، وفي يوم العرس طلب منها التنكر في حلة صبيانية في طريق ذهابها إلى الحمام لشدة جمالها وحتى لا يتعرض لها أي كان من الرجال في الطريق، واستجابت لطلبه ثم توجهت إلى الحمام واختلت بنفسها داخل المطهرة وأخذت تسرح شعرها الساحر، وحين قدمت بقية الفتيات إليها لم يجدنها وكأنها تبخرت، وتصور الجميع أن جنيا أحمر أعجب بها فابتلعها أو أنه ربما غضب منها لأنها كانت ترتدي زيا رجاليا. ومهما كان فحواها فقد حرّمت الأسطورة على النساء ارتياد الحمام.
يمكن أن يتم داخل الحمام الفصل في عدة أمور أساسية كاختيار زوجة أو شريك العمر، ففي هذا الفضاء كانت الأمهات يبحثن عن زوجات لأبنائهن أو أزواج لبناتهن. كما يمكن أن يكون المكان مجالاً لفض إشكاليات اجتماعية والفصل في مسائل استعصى حلها خارج حدود الحمام.
كما يمكن أن يمثل الحمام فضاء لتصفية الحسابات، من ذلك الشجار الشهير الذي حصل بين ابنة صاحب مقهى بالحلفاوين، وهو أشهر حي شعبي بتونس العاصمة، وواحدة من بين الراقصات المنتميات إلى فريق مطرب شعبي مشهور مكتبه ليس ببعيد عن الحمام، إذ قصدت الراقصة كسر شوكة ابنة صاحب المقهى المتسلطة في الحي، وهي فتاة وحيدة وأخت لخمسة أولاد ذكور، استفزتها بتعاملها المتعالي على الكل داخل الحمام، فإذا بالراقصة تعنفها أمام الجميع وتسحبها قصدا عارية إلى خارج الحمام الذي صادف أن كان مقابلا لمقهى والدها عملا بالمثل الشعبي القائل "لا يزيح الرطل إلا الكيلوغرام".
كما يبقى "حمام العروس" من أجمل التقاليد التي تتمسك بها معظم العائلات، حيث تذهب العروسة في أول أيام أسبوع الاحتفال بالعرس إلى الحمام مع رفيقاتها وأقاربها، فيقع كراء فضاء الحمام واحتكاره بالكامل من قبلهن، وتتم خلال ذلك الوقت ممارسة طقوس خاصة من بينها إشعال الشموع وطلاء الحيطان بالحناء ورسم الحرفين الأولين من اسمي العريس والعروس داخل إطار في شكل قلب على حائط "المقصورة" للذكرى، حتى وإن حصل وزارته نفس العروس وهي نفساء، في إطار ما يسمى "بحمام النفيسة" الذي يقع في غضون حوالي شهر من الولادة، تقوم بإضافة الحرف الأول من اسم مولودها الجديد مع تاريخ ميلاده.
إقرأ ايضاً: المشاهير يحتفلون على الميديا البديلة