في عالم فيسبوك تسقط كل التأويلات التي تحاول أن تختبر هوية هذا السطح الافتراضي العجيب، ومن يكتبون عليه من أفراد حقيقيين ومحتملين، وحتى وهميّين.
ذلك أنه في قراءة هوية هذا الكوكب، ربما لن تسعفنا الحرية، هنا كي تصلح تفسيراً لهويته، وإن كانت موجودة بالطبع، ولا المعرفة وإن كانت موجودة أيضاً، بل يمكننا أن نرى مزيجاً غريباً تتجاور فيه الحرية والابتذال، في ما هو - في الوقت نفسه - مزيج يسمح للمعرفة بأن تتساوى تماماً مع الجهل في المساحة ذاتها، وفي كل الصلاحيات الممنوحة للمستخدمين.
ربما كانت خاصية التواصل هي العلامة البارزة في خدمات سطح مارك زوكربيرغ. لكن فكرة التواصل هنا لا يمكن عزلها عن أفكار المتواصلين وأمزجتهم، وحتى تفاهاتهم؛ فلا يندر أن تجد في فيسبوك ما لا تجده في فضاءات الحياة الواقعية مهما كانت عموميتها وشعبويتها كالسوق أو الشارع مثلاً.
في السوق، حيث يكون المرء مكشوفاً أمام الجميع حيال هويته الواضحة، يصبح محدوداً بشروط وموانع هويته الظاهرة تلك، مهما كان تصرّفه غريباً أو مختلفاً، أمّا في مساحة الحرية الممنوحة لمستخدم الموقع، والشروط التي قد تجعل من هويته وهماً محتملاً؛ فثمّة ما يمكنه أن يعوّم تفاهاته على هذا السطح، ويمنحها قابلية للتداول الافتراضي، وإن كانت هذه التفاهات مؤذية بطبيعتها، وممّا يسهل حسمها بين السكارى في حانة مغمورة، كما عبّر الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو عن آفات فيسبوك.
البعض يرى في ذلك الجانب المؤذي لهوامش الحرية على سطح فيسبوك جزءاً من ضريبة الحرية ذاتها، وطبيعة الحياة المشتركة في ذلك الفضاء الافتراضي. لكن المحيّر في الأمر ليس الحجاج النسقي والمُسطَّح حول الحق في القول والتعبير واتصاله بالحرية، بل البحث المضني عن كيفية تفادي ومنع تلك التفاهات من إزعاج المتصفّحين، باعتبار حقّهم في أن لا يتعرّضوا، أثناء تصفّحهم، لمثل تلك التفاهات والمناولات المؤذية.
ثمّة تأويل مفرط للحرية، وربما غير ناضج، فلسفياً، في عقول مبرمجي تقنيات "الفيس"، هو الذي يؤسّس لتلك الحالة الغريبة العجيبة التي يتيحها لجميع مستخدميه، كيفما كانوا، وبغض النظر عن مدى ما يمكن أن ينجم عن آثار بعضهم من ضرر حقيقي على حياة الناس الواقعية. فبعض محتويات "فيسبوك" العنصرية هي ما جعلت وزير العدل الألماني يقول في هذا الصدد: "ينبغي ألاّ يكون هناك مكان للعنصرية ومعاداة الأجانب في مواقع التواصل الاجتماعي، كما في الشوارع".
في نقد الجانب المظلم من هوامش فيسبوك وآثاره الضارّة، هناك الكثير ممّا يجب أن يُقال. ولا يتّصل الأمر هنا بدعوى الحرية والدفاع عن خيارات البشر، كيفما كانت، فالإساءة إلى الناس وثقافاتهم ومعتقداتهم ليست وجهة نظر.
اقرأ أيضاً: رائحة الآيباد