أعاد الرفض الأخير للحكومة السودانية إعطاء صفة اللاجئين للفارين من حروب دولة جنوب السودان إلى الشمال، فتح ملف العلاقة الملتبسة تاريخياً مع المنظمات الدولية الإغاثية. علاقة وُلدت ميتة منذ وصول الرئيس عمر البشير إلى السلطة، وما زادت السنوات عليها إلا المزيد من التوتر.
وتحيط العلاقة بين الامم المتحدة ومنظماتها الإنسانية من جهة، والحكومة السودانية من جهة ثانية، الكثير من الريبة والشك وانعدام الثقة التي تراكمت منذ وصول البشير إلى السلطة، إثر انقلاب العام 1989. وقادت تلك العلاقة الملتبسة الى إقدام الحكومة في الخرطوم على طرد ممثلي الامم المتحدة في السودان يان برونك ومكس كابيلا في العام 2006. ومع احتدام الصراع في إقليم دارفور، ورفع ملف الانتهاكات التي ارتُكبت هناك إلى المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة توقيف بحق الرئيس عمر البشير، صعّدت الخرطوم من مواجهتها ضد المنظمات الاممية والأجنبية، واعتبرتها عاملاً رئيسياً في تدويل قضية دارفور، ووصفتها بأنها المهدّد الاخطر بالنسبة لأمنها. وقد أقدمت الحكومة على طرد ست منظمات دفعةً واحدة، مع إصدار المحكمة الجنائية أمراً بتوقيف البشير قبل أعوام. كما تتالت عمليات الطرد والايقاف، كانت آخرها الاسبوع الماضي، حين طردت السلطات السودانية المسؤولة عن مكتب صندوق الامم المتحدة للسكان، باميلا ديلارغي، وأوقفت قبلها نشاطات الصليب الأحمر.
خلفيّة الأزمة
عند وصول البشير إلى السلطة، وجد نفسه محاصراً بتنفيذ اتفاقية لم يكن جزءاً منها، عُرفت باتفاقية "شريان الحياة"، وقد وقّعتها الحكومة التي سبقته في أواخر أيامها، والخاصة بإيصال المساعدات الانسانية إلى المدنيين في مناطق النزاعات بجنوب السودان آنذاك. وكانت لدى الحكومة الجديدة تحفّظات على الاتفاقية، إذ رأت أن المساعدات الانسانية التي تقدمها الامم المتحدة تذهب للمتمردين، الأمر الذي يقود إلى تعزيز قوتهم.
وبعد عامها الأول من الحكم، ظهرت خلافات بينها وبين أطراف دولية وإقليمية، كانت تتّهم النظام الجديد بارتكاب انتهاكات ضدّ المدنيين في مناطق النزاع في جنوب ما قبل الانفصال، وهو ما قاد الحكومة إلى أن تتعامل مع المنظمات كعدوّ، ولا سيما أن تلك المنظمات قادت حملة ضدّ تلك الانتهاكات.
وأتت قضية دارفور وعقّدت الأمر، ولا سيما أنّ الحكومة تنظر إلى هذه المنظمات كطرف أساسي في مد المحكمة الجنائية بالمعلومات الخاصة بارتكاب جرائم حرب في دافور، كما تعتبر أنها تقف وراء أزمة العقوبات الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
أزمة ثقة
ويقول منسّق برنامج الامم المتحدة الانساني في السودان، علي الزعتري، لـ"العربي الجديد"، إنّ ازمة الثقة بين الطرفين تعود إلى مرحلة "شريان الحياة"، والحرب في جنوب ما قبل الانفصال التي خلقت شكاً لدى الحكومة. ويشير الزعتري إلى تطور الامر في ما يتعلق بقضية درافور وجنوب كردفان، عبر صياغة اتهامات لمنظمات غير حكومية وبعض المنظمات التابعة للامم المتحدة، بتقديم تقارير ضد السودان وأشخاص آخرين، أدّت إلى بلورة النظرة الدولية السلبية ضد السودان، والتضييق عليها، وولّدت القرارات الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية. ويلفت الزعتري إلى أن الخرطوم في الفترة الأخيرة، أصبح لديها إصرار على تقنين وتأطير العمل الدولي، ما أدى إلى تقييد حركة موظفي الامم المتحدة وفرض إجراءت "صعبة"، مع ارتفاع وتيرة عمليات وقف المشاريع، إما بشكل دائم، أو مؤقت. قرارات عقابية يعتبر المسؤول الدولي أنها لا تصدر عن الجهات المستفيدة من المشاريع، وإنما من جهات تملك سلطة وصاية. ويؤكد الزعتري أن عملية بناء الثقة ستأخذ وقتاً بسبب التراكمات التاريخية بين الطرفين، ويشدد على أن ذلك يتطلب عملاً دؤوباً ومصداقية من الطرفين.
وينفي الرجل تماماً تسلّم برنامج الامم المتحدة الانساني في السودان لأي توضيحات أو أدلّة رسمية من الحكومة في كل مرة يتم فيها طرد منظمة أممية أو أحد مسؤوليها في الخرطوم.
شأن أمني
ويقول المحلل السياسي ماهر أبو الجوخ، إن تراكم عدم الثقة تجاه الامم المتحدة ومنظماتها، جعل الحكومة تتعامل معها كشأن أمني، باعتبارها طرفاً لجمع المعلومات من الميدان لإدانة الخرطوم في المحافل الدولية. ويرى أن أزمة دارفور وما أدّته المنظمات من أدوار في الاضاءة على الواقع، قاد الحكومة لترصّد الفرص للتخلص منها، إلى جانب فرض قيود مشددة عليها للحد من نشاطها. ويضيف أن الحكومة نجحت تماماً في تخويف المنظمات من خطر طردها بسبب سوابقها لناحية ترحيل ممثلي الامم المتحدة. وفي رأي أبو الجوخ، فإنّ الحكومة تتحرك من واقع المصالح التي تربطها بدول تمتلك حق الفيتو في مجلس الامن الدولي، كالصين وروسيا، وبشكل غير مباشر الولايات المتحدة. من هنا يخلص إلى أنه أصبح من الصعب أن تصدر من مجلس الامن خطوات تأديبية ضدها، الأمر الذي منحها قوة وجعلها لا تخشى المجتمع الدولي.
وقد ثبّتت تأثيرات الازمة المتراكمة بين الحكومة السودانية والامم المتحدة، واقعاً جديداً في إقليم دارفور، إذ رفضت الحكومة، خلال السنوات الاولى للحرب، نشر أي قوات أممية في الإقليم، أسوة بجنوب السودان في حينها. وبعد أخذ وردّ، وتصعيد للغة المواجهة مع المجتمع الدولي، وافقت الحكومة على نشر قوات مختلطة من الامم المتحدة والاتحاد الافريقي في إقليم دارفور، عُرفت بقوات "اليوناميد"، بلغ عددها أكثر من 19 ألف عنصر. وقد خضع العدد للتخفيض أكثر من مرة، وصدر قرار العام الماضي بتخفيضها إلى 14 ألفاً بحلول يونيو/ حزيران المقبل، حتى استتباب الامن في الاقليم.
وواجهت البعثة انتقادات واسعة النطاق في الإقليم، إذ اتهمت بالضعف، ولا سيما أنها تعرضت لهجمات أكثر من عشر مرات. وبلغ مجموع الضحايا من أفراد البعثة في العام 2013، بحسب تقرير صادر عنها، 164 شخصاً. كما أن "اليوناميد" تشكل عبئاً على المانحين، باعتبارها أكبر بعثة في تاريخ المنظمة الدولية والافريقية، إذ قُدِّرَت آخر ميزانية للبعثة خلال الفترة الممتدة من يوليو/ تموز 2013 إلى يونيو/ حزيران المقبل، ملياراً و350 مليون دولار.
وفي حوار مع راديو "دبنقا"، بُثّ يوم الثلاثاء الماضي، وجهت الناطقة الرسمية باسم البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الافريقي، "اليوناميد"، التي استقالت من منصبها العام الماضي، عائشة البصري، انتقادات لاذعة لـ"اليوناميد"، واتهمتها بالتستّر على الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين في دارفور على يد الحكومة والميليشيات والحركات المتمردة. وأكدت أن ذلك التستر كان السبب الرئيسي وراء استقالتها. ووصفت البعثة بـ"الفاشلة"، وأكدت أن مجلس الامن كان على علم بفشل البعثة قبل إرسالها إلى درافور بسبب رضوخه لشروط الحكومة السودانية. وأشارت البصري إلى أن السبب الرئيسي وراء ذلك الصمت، الخشية من إقدام الحكومة في الخرطوم على طرد البعثة التي "غضّت الطرف عن أحداث وقعت خلال العام 2012 و2013، ولم يتم تضمينها في تقارير الأمين العام بان كي مون". وأوضحت البصري أن الحقائق التي تتحدث عنها تتعلق بتنفيذ سلاح الجو السوداني 106 عمليات قصف في دارفور خلال العام 2012، و58 في 2013.
دفن الرأس في الرمال
قادت التحديات المتزايدة، والصراع في دارفور، إلى تقليص متواصل لعدد العاملين في المجال الإنساني من 18 ألف موظف في 2009، إلى 6800 موظف في أواخر العام الماضي. كما تقلّص عدد المنظمات من 300 إلى 64 منظمة. لكن الحكومة، على لسان المدير العام لمفوضية حقوق الانسان سليمان مرحب، وضعت الأمر في خانة التطور الإيجابي، على اعتبار أنه يؤكد على "استقرار الامن في دارفور". ورأى مرحب أن بعض المنظمات غادرت بسبب انتهاء مهمتها، والبعض الآخر التحق بدولة الجنوب، وفئة ثالثة واجهتها مشاكل في التمويل.