بينما كان المصريون يتبادلون التهانئ مساء أمس الأول عقب إقالة أحمد الزند لتطاوله على النبي عليه الصلاة السلام، تلقوا في اليوم التالي ضربة عنيفة فوق رؤوسهم تمثلت في خفض قيمة عملتهم بنحو 14.5% مقابل الدولار، وهو أكبر خفض في تاريخ مصر على الإطلاق، ولو كان هذا الخفض، الأقرب للتهاوي، حدث في ظروف طبيعية لأطاح بالحكومة، بل وربما أطاح بالنظام السياسي بالكامل.
كثيرون، وأنا منهم، شعروا بصدمة عنيفة عقب الإعلان عن الخفض الأخير في قيمة الجنيه المصري، ذلك لأن نسبة الخفض كبيرة وغير متوقعة وتجعل البنك المركزي يدخل في سباق مع السوق السوداء وتجار العملة الذين يهمهم بالدرجة الأولى الأرباح والمكاسب المادية.
وكثيرون وضعوا يدهم على قلوبهم خوفا على مستقبل البلد والاقتصاد القومي والنسيج المجتمعي، ذلك لأنه بهذا الخفض تأكد للجميع أن لا أحد سيوقف صعود الدولار الجامح والمستمر، وأن خطراً محدقاً بات يهدد المصريين في حياتهم المعيشية ومدخراتهم وأصولهم المالية، وأن الدولار بات يزاحم المصريين في لقمة العيش والمرتبات، وأن المواطن بات غير قادر على تحمل كل الصدمات المتتابعة في ظل ارتفاع مستمر في الأسعار، وخفض متواصل للدعم الحكومي بخاصة لسلع أساسية، وفرض مزيد من الضرائب والرسوم الجمركية.
ما تم اليوم من تراجع حاد في قيمة الجنيه أمام الدولار يقول إننا أمام عملية فشل ذريعة وبامتياز من قبل الحكومة في إدارة هذا الملف الحساس، وهذا الفشل ليس مسؤولا عنه البنك المركزي الذي يتحرك في إطار الإمكانيات والأموال والأدوات المتاحة لديه، وليس مسؤولاً عنه تجار العملة والصرافات كما يصور البعض، لكنْ مسؤول عنه حكومات متعاقبة أخفقت في إدارة الملف الاقتصادي والمالي للبلاد، كما أخفقت في إدارة ملفات كثيرة أخرى.
أخفقت حينما اعتبرت أن الاقتصاد المصري، ثالث أكبر اقتصاد في المنطقة، يمكن أن يعيش وينمو على المعونات والمنح من هنا وهناك، أخفقت حينما راحت تصور للمصريين ان مشروعات قومية عملاقة على الأبواب، وأن هذه المشروعات ستنقل مصر لمصاف الدول المتقدمة الكبرى في غضون عامين.
أخفقت حينما راحت تتخيل أن جذب الاستثمارات الخارجية عملية سهلة وبسيطة وتخضع للفهلوة، وتأتي عبر إقامة مؤتمرات دولية دون حل المشاكل الحقيقية التي تواجهها وفي مقدمتها الاضطرابات وأزمات الطاقة وسوق الصرف والفساد والبيروقراطية في المؤسسات الحكومية.
أخفقت حينما راحت تصور للعالم كله أن مصر أكبر واحة للإرهابيين، وأن المتظاهرين السلميين المطالبين بالحرية والعدالة الاجتماعية ما هم إلا مجموعة من الإرهابيين والانتحاريين والمرتزقة والخائنين يجب إبادتهم وسحقهم لأنهم لا يستحقون الحياة أصلاً، أخفقت حينما رفعت درجة القلق وعدم اليقين داخل المجتمع وهي الأساس الذي يقوم عليه أي استثمار محلي أو أجنبي.
أخفقت حينما راحت تقتل المصريين وتعتقلهم وتسجنهم وتضيق الخناق عليهم، وتخيلت أن أسر هؤلاء المغتربين سيسارعون بتحويل أموالهم من الخارج لمساندة الاقتصاد المتعثر والذي يواجه مرحلة حرجة، أخفقت حينما تصورت أن الأموال ستتدفق عليها من الداخل والخارج في الوقت الذي يصادر أموال المعارضين السياسيين له.
أخفقت في اختيار برلمان لا يحاسبها على خنق المصريين يومياً وفرض مزيد من الأعباء المالية عليهم، برلمان لا يعرف ما الذي يجري على الأرض من أزمات معيشية، برلمان لا يحاسب حكومة فاشلة، ولا يعرف حتى مصير بنود الإنفاق في الموازنة العامة، برلمان ليس على اطلاع بحال المواطن الفقير والموظف الغلبان.
أخفقت في اختيار وزراء ليس من بينها اقتصادي محترف أو وزير له بصمة وتاريخ في المؤسسات المالية الدولية.
خفض قيمة الجنيه المصري هو نتاج لسياسات الحكومة الفاشلة في إدارة الملف الاقتصادي، وإخفاقها المستمر في إعادة الحياة لموارد البلاد من النقد الأجنبي، فقد قضت على ما تبقى من السياحة بمقتل الطالب الإيطالي جوليو روجيني، وقبلها حادث سقوط الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2015، وقبلهما مقتل السياح المكسيكيين في الصحراء الغربية.
إخفاق مستمر، ومع هذا الإخفاق فإن السؤال الذي بات مطروحا هو: هل نحن على أبواب تعويم كامل للعملة المصرية وتركها للعرض والطلب يتلاعب بها المضاربون دون توافر حماية كافية أو احتياطي قوي يتدخل لضبط سوق الصرف؟
أزمة الدولار ليست أزمة عادية تشغل بال الحكومة فقط، وفي نفس الوقت ليست أزمة البنك المركزي لوحده، بل باتت قضية أمن قومي تشغل بال المصريين جميعا، ولذا فإنه يجب البحث عن حل لهذه الأزمة التي إن استفحلت فإن ثورة جياع قادمة لن يستطع أحد مهما كان أن يقف في وجهها.
حما الله مصر وشعبها من نار الفتن وثورات الجياع.
اقرأ أيضاً:
مخاوف في مصر من تعويم الجنيه
الدولار يستأسد في مصر
الدولار ودفن الرؤوس في الرمال