الدولة المتوحشة

13 يونيو 2015

الأمن المصري يقمع تظاهرة مناوئة للانقلاب العسكري (16فبراير/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
قد لا تُفاجأ إذا استيقظت يوماً في دولة عربية على وقع خبر يفيد بأن قوات الأمن أحبطت محاولة إرهابية، بسبب العين الساهرة وبسالة الجنود والضباط التي لا يضاهيها بسالة في العالم كله، فهم خير أجناد الأرض وأشاوسها، فهذه عناوين تعودنا عليها في بلادنا، واعتادت مسامعنا على الأرقام والبيانات المتضاربة والمتناقضة حول الحوادث وكيفية إفشالها، ويصيح المواطن العادي في ابتسامةٍ لا يستطيع أن يفصح عنها أن القصة غير محبوكة، بمعنى أنه مقبول لدى المواطن، بل معتاد أن تكون غير حقيقية. ولكن، عليهم احترام ذكاء المستمع والمشاهد، إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فيا ليتهم يبذلون قليلاً من إعمال الفكر، حتى تستساغ الرواية، ويجد المواطن ما يريح ضميره عند سماعها.

ولأن الاعتراف سيد الأدلة، ولا مجال لإنكار الجرائم إذا اعترف بها منفذوها، فقد تعودت غالب الأجهزة الأمنية في البلاد الديكتاتورية على إغلاق كل قضية بتقديم المتهم المعترف بذنبه. وقديماً، كانت هناك طرفة متداولة بين المصريين، أن رئيس إحدى الدول ضاعت قبعته، فأبلغ وزير الداخلية، وبعد ساعات قليلة، وجد الرئيس القبعة، فرفع سماعة التليفون مخبراً الوزير بأنه وجدها، فإذا بالوزير يرد عليه أن مجموعة كبيرة اعترفوا بسرقة القبعة بالفعل. وعلى الرغم من رمزية القصة، إلا أنها تتكرر يومياً بلا خجل، فالمواطن يتم القبض عليه، فيدخل في أصناف مختلفة من التعذيب، وهو لا يدري سبباً، ثم تأتي الكاميرات والأوراق التي يقرأ منها ما كتبه مخرج المسرحية، وتوضع أمامه أسلحة وذخائر، ليطلع علينا المسؤول الأمني بالكشف الخطير، موضحاً بسالة رجال الأمن، وسهرهم على راحة المواطن وأمنه، وتتدخل أجهزة الإعلام بسكب مزيد من الكيروسين على النار المشتعلة، ليطالب الجميع بإعدام الضحية.

إن مجرد نشر صور المتهمين للمجتمع قبل محاكمتهم وإدانتهم من قضاء مدني عادل هو نوع من التشهير المجرّم قانوناً، فما بالنا بالفيديوهات التي يتناقلها الجميع، وتصبح مادة إعلامية شيقة قبل صدور أي إدانة، أو الخضوع لأي محاكمة. وفي الدستور المصري، (كل مواطن يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته بأي قيد تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان، ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنويا، كما لا يجوز حجزه أو حبسه في غير الأماكن الخاضعة للقوانين الصادرة بتنظيم السجون، وكل قول يثبت أنه صدر من مواطن تحت وطأة شيء مما تقدم، أو التهديد بشيء منه، يهدر ولا يعول عليه). ولكن، لأن الدستور معطل منذ انقلاب يونيو/حزيران 2013 فالإيذاء البدني مباح والمعنوي مرحب به، والقاعدة القانونية الشهيرة أن ''المتهم بريء حتى تثبت إدانته'' هي أيضاً مهدرة في ظل الديكتاتوريات.

وفي مصر، تعدّى التصوير التشهير إلى الإذلال، فيتم بث مشاهد القبض بصورة معتادة، في حين أن وزير العدل في عهد المشير حسين طنطاوي، وتحديداً في يوليو/تموز 2011 قال، مدافعاً عن عدم بث صور لحسني مبارك ونظامه، إن (مبرر التصوير فيه إخلال بحقهم، فالأصل فيهم البراءة، إلى أن تثبت الإدانة بأحكام قضائية، فلا يجوز أن تصورهم في هذه المواقف التي يخجلون منها، وأسرهم تخجل منها إلى أن تسفر المحاكمة عن الإدانة، فيمكن تصويرهم بعد الإدانة)، فهم يعلمون جيداً ما تسببه هذه الصور من إيذاء، وتدفع الحق في البراءة، وتؤثر على الرأي العام، وتجعله يتقبل الأحكام المجهزة سابقاً بالإعدام أو السجن مدداً طويلة.
وبالطبع، إذا تحدثنا عن حقوق المتهم الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي تم التصديق عليه عام 1966، فنحن كمن يتحدث عن عالم افتراضي، لا وجود له في دول الاستبداد العربي، ومصر نموذج جيد لذلك، بداية من افتراض براءة المتهم حتى تثبت الإدانة وتجريم الاختفاء القسري، وحق المتهم في معاملة كريمة طوال فترة التحقيق، والحق في احترام شرفهم وخصوصيتهم، فقد تعدت السلطات القمعية ذلك بمراحل، وأصبح منتهى آمال المواطن أن يقنن التعذيب، أو أن يعترف بما يريدون، من دون التشهير به وبث الفيديوهات، ويكفي أن تطلع على تقرير مركز النديم، أحد المراكز الحقوقية في مصر الذي يقرّر أنه وثّق حالات انتهاكات الشرطة المتضمنة التعذيب والاعتداء الجنسي وغيرها، خلال عام واحد فقط، تعدّت الألف حالة منها 272 حالة وفاة، بخلاف الحالات التي يحجم أصحابها إبلاغ المؤسسات الحقوقية، خوفاً من القتل أو التشريد. كل هذا يجعلك توقن أن مصر تحولت إلى غابة موحشة، لا مكان فيها لقانون، بل كل المؤشرات تنبئ بوجود قنبلة موقوتة في قلوب الشباب الثائر توشك أن تنفجر في وجه الطغاة.