لم يكن الفلاسفة والسياسيون وحدهم من يجادل في مفهوم "الرفاه" ومكوّناته طوال قرون، إنما ثمة بلدان في العالم المتطوّر قد نَظّمت أو أعادت تنظيم نفسها في حدود نصف القرن الأخير على الأقل؛ بهدف تحقيق "الرفاه" لسكانها أيضاً.
بمرور الوقت، كان مصطلح "الرفاه" قد اكتسب مجموعة متنوعة من المعاني، وضمَّن دلالاته الشائعة المتعددة الآن مثل الكفاية المادية، والرخاء، وانعدام الظروف السلبية، والصحّة الجسدية والنفسية، وإشباع الرغبات، وتوفير الحاجات ضمن سياق خدمات منظمة للمحتاجين والسكان على نطاق أوسع.
ومعنى الرفاه، كما رُصد تاريخياً في هذا الكتاب، لا انفصام فيه عن أفكار فلسفية ومواقف أخلاقية من ناحية، وعن السياسات والمؤسسات السياسية من ناحية أخرى. وقد بذلت المؤلفة ماري دالي جهداً كبيراً في استقصاء مفهوم "الرفاه" في عدد من المستويات، منها الاقتصاد الكلاسيكي الحديث الذي ارتبط مفهوم الرفاه فيه بالمنافع المتبادلة المستندة إلى السوق، وعلى صعيد الفلسفة وعلم السياسة تطور المفهوم باعتباره مبدأ أخلاقياً. أما على صعيد العمل الاجتماعي، فارتبط الرفاه بفاعلية المؤسسات الاجتماعية ومدى استجابته المنظمة للعوز. ولم يغفل هذا التتبع المستوى السلبي لمفهوم الرفاه "الفاسد" في الولايات المتحدة، الذي ارتكز على سلوك أولئك الذين يتلقون الإعانات الحكومية.
ولقد جاء هذا الكتاب بوصفه محاولة لتحديث سجل التفكير في الرفاه، وكان ذلك عبر ثلاثة محاور، أولها: كيف تم تصوّر الرفاه. والثاني: كيف تم تسيس المفهوم، والثالث: كيف ينظر إلى الرفاه باعتباره ملمحاً من تنظيم الحياة اليومية المرتبط بالسوق والأسرة والمجتمع. ثم كان اقتراح دالي بتوسيع المفهوم عبر دراسات جديدة تتجاوز المفاهيم النمطية السائدة.
وقد برزت أمام المعالجة مخاطر المبالغة في التركيز على الحالة المادية، والوضع الاجتماعي/ الاقتصادي؛ لذا جاء الكتاب مهموماً بتطوير مفهوم الرفاه ليكتسب شكلاً اجتماعياً وعلائقياً، من أجل غرس الاهتمام بالرعاية، بوصفه نشاطاً وتوجّهاً وعنايةً بالمدى الذي يكون الناس فيه مشاركين في مجالات عدة.
اقــرأ أيضاً
أظهر فصلا الكتاب الأول والثاني أن طيف الأفكار الموجود في الرفاه، أو الذي يثيره، ليس واسعاً فحسب، بل عميقاً أيضاً بمقدار عمق القضايا التي يقدّمها. كما أنّ الفصل الثالث - كما تقول المؤلفة - أظهر أن الرفاه مصطلح مليء بالدلالة السياسية. وهو يستند إلى قاعدة من الفلسفات والخطابات التي تعرض رؤى مختلفة عمّا هو "خير" و"حق"؛ ومن ثمّ فإن الرفاه يسعى إلى فهم الجوانب الجوهرية في تلك الفلسفات ويعمل على تحديدها. وبوصفه مَثَلا سياسيًا أعلى، يعدُّ الرفاه تعبيرًا عن المسؤولية الأخلاقية، ومكوّنًا في أنظمة المعتقدات السياسية حول قضايا، مثل الأولوية النسبية للحرية الفردية على الأهداف الجماعية، وطبيعة الدولة ودورها، ومدى حاجة عمليات السوق والاقتصاد إلى توجيه وإرشاد، ودور المؤسسات الوسيطة وموقعها مثل الأسرة والجمعيات التطوعية المدنية.
كما تعرّضت ماري في الفصل الرابع إلى نماذج مختلفة من الرفاه. وقد يقال إن الوجهة الفلسفية والسياسيّة هي العامل الرئيسي الذي يُحدّد دولة الرفاه. لكنها تستدرك بأنّ هناك خمسة عوامل سببية تعدّ محرّكات التنمية لدولة الرفاه، وهي: التصنيع، والمصالح، والمؤسسات، والأفكار/الأيديولوجيات، والتأثيرات الدولية.
كما يناقش الكتاب التنظيم الجماعيّ للرفاه، في أوروبا خصوصاً، ممثلاً في نشأة دولة الرفاه، حيث تشير كل الأدلّة إلى نطاق الرفاه بوصفه موضوع سياسات عامة، أي صرحاً ضخماً بُني بناءً مفهوميًّا لتعميم الرفاه بوصفه شرطًا للحياة الفردية والجماعية. وقد شهد هذا توسّع الضمان الاجتماعي، وفرض الضرائب ومجموعة من الخدمات العامة. كما لوحظ بدرجات متفاوتة في التدخّلات الهادفة إلى "أنسنة" العمالة وكبح تجاوزات السوق. ولكن مع ذلك، يبدو واضحاً أيضاً أن بعض البلدان لديها تفسيرات أخرى لما يعنيه "الرفاه" وما ينبغي أن تكون عليه شكل "دولة الرفاه".
تقول ماري دالي: يبدو واضحًا أننا في مرحلة تحوّل، وأن "العصر الذهبي" الأصيل لدولة الرفاه الأوروبية التوسّعية والطموحة اجتماعياً، قد أصبح خلفنا الآن. كما تختصر دالي هذا الواقع بقولها: "أضحى القبول بدور للدولة في الرفاه الاجتماعي أمراً مشكوكاً فيه، وإن كانت دولة الرفاه لم تنتهِ بعد، ولفهم السبب وإدراك ما قد يحدث في المستقبل، يخدمنا أن نعتبر دول الرفاه معقدة من حيث النشأة والأداء.
ويختم الكتاب بأن السياسات المختلفة في السنوات الخمسين الماضية راوحت مكانها على أرضية الرفاه، وأن الإجماع في شأن دولة الرفاه بوصفها شكلاً مرغوبًا فيه من التنظيم لم يعد ثابتًا، وإن لم يُتراجع عنها، وذلك نتيجة لهجمة "الليبرالية الجديدة" عليها.
(كاتب مصري)
اقــرأ أيضاً
بمرور الوقت، كان مصطلح "الرفاه" قد اكتسب مجموعة متنوعة من المعاني، وضمَّن دلالاته الشائعة المتعددة الآن مثل الكفاية المادية، والرخاء، وانعدام الظروف السلبية، والصحّة الجسدية والنفسية، وإشباع الرغبات، وتوفير الحاجات ضمن سياق خدمات منظمة للمحتاجين والسكان على نطاق أوسع.
ومعنى الرفاه، كما رُصد تاريخياً في هذا الكتاب، لا انفصام فيه عن أفكار فلسفية ومواقف أخلاقية من ناحية، وعن السياسات والمؤسسات السياسية من ناحية أخرى. وقد بذلت المؤلفة ماري دالي جهداً كبيراً في استقصاء مفهوم "الرفاه" في عدد من المستويات، منها الاقتصاد الكلاسيكي الحديث الذي ارتبط مفهوم الرفاه فيه بالمنافع المتبادلة المستندة إلى السوق، وعلى صعيد الفلسفة وعلم السياسة تطور المفهوم باعتباره مبدأ أخلاقياً. أما على صعيد العمل الاجتماعي، فارتبط الرفاه بفاعلية المؤسسات الاجتماعية ومدى استجابته المنظمة للعوز. ولم يغفل هذا التتبع المستوى السلبي لمفهوم الرفاه "الفاسد" في الولايات المتحدة، الذي ارتكز على سلوك أولئك الذين يتلقون الإعانات الحكومية.
ولقد جاء هذا الكتاب بوصفه محاولة لتحديث سجل التفكير في الرفاه، وكان ذلك عبر ثلاثة محاور، أولها: كيف تم تصوّر الرفاه. والثاني: كيف تم تسيس المفهوم، والثالث: كيف ينظر إلى الرفاه باعتباره ملمحاً من تنظيم الحياة اليومية المرتبط بالسوق والأسرة والمجتمع. ثم كان اقتراح دالي بتوسيع المفهوم عبر دراسات جديدة تتجاوز المفاهيم النمطية السائدة.
وقد برزت أمام المعالجة مخاطر المبالغة في التركيز على الحالة المادية، والوضع الاجتماعي/ الاقتصادي؛ لذا جاء الكتاب مهموماً بتطوير مفهوم الرفاه ليكتسب شكلاً اجتماعياً وعلائقياً، من أجل غرس الاهتمام بالرعاية، بوصفه نشاطاً وتوجّهاً وعنايةً بالمدى الذي يكون الناس فيه مشاركين في مجالات عدة.
أظهر فصلا الكتاب الأول والثاني أن طيف الأفكار الموجود في الرفاه، أو الذي يثيره، ليس واسعاً فحسب، بل عميقاً أيضاً بمقدار عمق القضايا التي يقدّمها. كما أنّ الفصل الثالث - كما تقول المؤلفة - أظهر أن الرفاه مصطلح مليء بالدلالة السياسية. وهو يستند إلى قاعدة من الفلسفات والخطابات التي تعرض رؤى مختلفة عمّا هو "خير" و"حق"؛ ومن ثمّ فإن الرفاه يسعى إلى فهم الجوانب الجوهرية في تلك الفلسفات ويعمل على تحديدها. وبوصفه مَثَلا سياسيًا أعلى، يعدُّ الرفاه تعبيرًا عن المسؤولية الأخلاقية، ومكوّنًا في أنظمة المعتقدات السياسية حول قضايا، مثل الأولوية النسبية للحرية الفردية على الأهداف الجماعية، وطبيعة الدولة ودورها، ومدى حاجة عمليات السوق والاقتصاد إلى توجيه وإرشاد، ودور المؤسسات الوسيطة وموقعها مثل الأسرة والجمعيات التطوعية المدنية.
كما تعرّضت ماري في الفصل الرابع إلى نماذج مختلفة من الرفاه. وقد يقال إن الوجهة الفلسفية والسياسيّة هي العامل الرئيسي الذي يُحدّد دولة الرفاه. لكنها تستدرك بأنّ هناك خمسة عوامل سببية تعدّ محرّكات التنمية لدولة الرفاه، وهي: التصنيع، والمصالح، والمؤسسات، والأفكار/الأيديولوجيات، والتأثيرات الدولية.
كما يناقش الكتاب التنظيم الجماعيّ للرفاه، في أوروبا خصوصاً، ممثلاً في نشأة دولة الرفاه، حيث تشير كل الأدلّة إلى نطاق الرفاه بوصفه موضوع سياسات عامة، أي صرحاً ضخماً بُني بناءً مفهوميًّا لتعميم الرفاه بوصفه شرطًا للحياة الفردية والجماعية. وقد شهد هذا توسّع الضمان الاجتماعي، وفرض الضرائب ومجموعة من الخدمات العامة. كما لوحظ بدرجات متفاوتة في التدخّلات الهادفة إلى "أنسنة" العمالة وكبح تجاوزات السوق. ولكن مع ذلك، يبدو واضحاً أيضاً أن بعض البلدان لديها تفسيرات أخرى لما يعنيه "الرفاه" وما ينبغي أن تكون عليه شكل "دولة الرفاه".
تقول ماري دالي: يبدو واضحًا أننا في مرحلة تحوّل، وأن "العصر الذهبي" الأصيل لدولة الرفاه الأوروبية التوسّعية والطموحة اجتماعياً، قد أصبح خلفنا الآن. كما تختصر دالي هذا الواقع بقولها: "أضحى القبول بدور للدولة في الرفاه الاجتماعي أمراً مشكوكاً فيه، وإن كانت دولة الرفاه لم تنتهِ بعد، ولفهم السبب وإدراك ما قد يحدث في المستقبل، يخدمنا أن نعتبر دول الرفاه معقدة من حيث النشأة والأداء.
ويختم الكتاب بأن السياسات المختلفة في السنوات الخمسين الماضية راوحت مكانها على أرضية الرفاه، وأن الإجماع في شأن دولة الرفاه بوصفها شكلاً مرغوبًا فيه من التنظيم لم يعد ثابتًا، وإن لم يُتراجع عنها، وذلك نتيجة لهجمة "الليبرالية الجديدة" عليها.
(كاتب مصري)