خلال عام 2014 المنصرم وكلما زرت مكتبة ما في الصين، كنت اجد كتاب "تأمّلات مؤلمة في سنة جياوو" في أرفف الكتب الرائجة والاكثر مبيعا. "جياوو" هو اسم من أسماء السنوات الستين في النظام الصيني التقليدي لتسمية السنة؛ وتبعا لذلك تعتبر كل من 1894 و 2014 سنة "جياوو". ففي الاولى، أي 1894، اندلعت حرب بين الصين واليابان، وفيها هزَمت القوات البحرية اليابانية أقوى الأساطيل الصينية في البحر الأصفر هزيمة نكراء. هذه الهزيمة، كانت بداية لسيطرة اليابان على شرق آسيا، وبدء التحولات والثورات الصينية الحديثة في نظر باحثي التاريخ. وعلاوة على ذلك اعتبرت لحظة من لحظات "الذل القومي" في نظر الصينيين حتى اليوم. وفي الثانية، اي 2014، وبعد 120 سنة من "جياوو" الأولى، وعندما اشتد النزاع بين الصين واليابان على البحر والجزر بينهما، انتشرت النقمة القومية الصينية ضد اليابان في طول وعرض المجتمع الصيني، وأدى ذلك إلى توتر العلاقات الصينية اليابانية في مختلف الميادين، خاصة في مجالي الدبلوماسية والتجارة. حينها، ظهرت في المجتمع الصيني، حاجة ماسة وشعور الى القيام برد فعل على"العدوان الياباني الجديد".
وفي سياق الاهتمام بـ "سنة جياوو" أيضا، نشرت وكالة أنباء شينخوا في جريدتها المعروفة "مراجعات الأخبار" سلسلة من ثلاثين مقالة، ألفها باحثون وقادة في الجيش الصيني تحت عنوان "تأمّلات مؤلمة لأعلام عسكريين في سنة جياوو". وقد شكلت هذه المقالات مادة هذا الكتاب.
تباينت المقالات من حيث المضمون والمقصود؛ فبعضها ركَّز على اكتشاف التفاصيل التاريخية لحرب سنة 1894، وبعضها الآخر، ناقش الترتيبات الحربية والاستراتيجيات العسكرية المختلفة بين الصين واليابان في هذه الحرب. لكنها جميعا حاولت بشكل او بآخر أن تجيب عن السؤالين التاليين: أولا، لماذا انهزمت الصين الضخمة وانتصرت اليابان الصغيرة؟ وثانيا، كيف تتجنب الصين في المستقبل أي ذل قومي أو عدوان جديد؟
بالنسبة إلى أسباب هزيمة الصين، اجتمعت المقالات على عدة خلاصات اولها تخلف النظام السياسي وفساد الإدارة. ذلك ان انتشار الفساد في النخبة الحاكمة ادى إلى ضُعف إدارة الإمبراطورية المركزية وجمود التطور والإصلاح السياسي فيها، اذ فشل الحكّام في التركيز على بناء القوات الدفاعية وتحديثها، بل اقترضوا أموالا من ميزانية سلاح البحرية لبناء حديقة إمبراطورية جديدة. أما اليابان وإبان تولي ال "مييجي" للعرش عام 1868، فقد شهدت تحولات سياسية واجتماعية جذرية شكّلت عمليا الإمبراطورية اليابانية الحديثة، والتي امتازت بالكفاءة الادارية، والتلاحم مع الشعب، والاعتماد على جيش متطور.
ثانيا، الافتقار إلى العلوم والتكنولوجية والاستراتيجية العسكرية الحديثة. حيث أشارت بعض المقالات إلى أن الصين قد اشترت من أوروبا سفنا حربية أحدث من السفن اليابانية، إلا أن قادة الجيش الصيني لم يستطيعوا تهيئة جيشهم وتنظيمه وإرشاده قبل الحرب وخلالها. بينما الجيش الياباني كان قد حُدّث تحديثا كاملا من حيث الأجهزة والاستراتيجية.
وثالثا، وهو الأهم، ضُعف تضامن الشعب الصيني وعدم وجود الوعي الوطني والروح القومية. وقد بلغ هذا الضعف درجات قصوى شبّهته بعض المقالات بـ "رمال متفشّية" لم تستطع أن تجتمع على دفاع الذات الجماعية وتطويرها.
ويتجلى من ما ذُكر أعلاه أنّ النقاشات حول حرب 1894 في كتاب "تأمّلات" ليست نقاشات تاريخية أو واقعية فحسب، بل محاولات تستغلّ الحدث التاريخي لرسم مستقبل الصين، وكأن حرب 1894 أصبحت رمزا لمصير الصين أمةً وحضارةً. والتي كانت احدى نتائجها بدء الثورات الصينية لإعادة تشكيل الروح القومية التي فقدتها أثناء الحرب. هذه المعاني الرمزية، هي التي حملتها جميع التحليلات والنقاشات في هذا الكتاب بكل أشكالها التاريخية أو الاستراتيجية.
بيد أن هذه الرمزية لم تأت من فراغ ولها أسبابها التاريخية ونوازعها الحالية. فحرب 1894 كانت أول مواجهة بين الصين واليابان بعد قيامهما بالتصحيح التحديثي لمجتمعيهما تأثرا بالغرب. في رأي الصينيين، ظلت اليابان تلميذا للحضارة الصينية خلال القرون الطويلة حتى منتصف القرن التاسع عشر. وبعد هزيمتها في الحرب، أعلنت الصين فشلها في سباق التحديث، وتبعها انتقال السيادة في شرق آسيا من الصين إلى اليابان.
ومجددا، ومع بدايات سنة 2014، عندما اشتد "العدوان الياباني الجديد" مع تحويل الولايات المتحدة مركز استراتيجيتها العالمية إلى آسيا والمحيط الهادئ، ثارت العواطف القومية ضد اليابان في الشوارع الصينية مرة أخرى. واستجابت الحكومة الصينية لهذه العواطف بحذر، حيث غذت القومية الصينية الفراغ الأيديولوجي الذي خلفه اضمحلال الشيوعية، وساعدت على تعزيز شرعية النظام الحاكم. وقد تختطف هذه القومية، إذا عظمت وشدّت، الرأي العام الصيني ليدعو الحكومة إلى مواجهات عسكرية لليابان، مما قد يؤدي إلى حرب إذا وافقت الحكومة، أو إلى اضعاف شرعيتها إذا رفضت. لكن الحكومة تميل الى الاستجابة للدعوات القومية في ميدان القلم والخطاب، ومن هنا تظهر قيمة حرب 1894 كمادة رمزية قابلة للاستغلال. وكذلك تأتي اهمية نشر هذا الكتاب، حيث يؤجج العواطف القومية ويمتصها لكن من دون الحاجة للجوء إلى مواجهات عسكرية غير ضرورية.
(باحث في الدراسات العربية والشرق أوسطية، كامبرج)
وفي سياق الاهتمام بـ "سنة جياوو" أيضا، نشرت وكالة أنباء شينخوا في جريدتها المعروفة "مراجعات الأخبار" سلسلة من ثلاثين مقالة، ألفها باحثون وقادة في الجيش الصيني تحت عنوان "تأمّلات مؤلمة لأعلام عسكريين في سنة جياوو". وقد شكلت هذه المقالات مادة هذا الكتاب.
تباينت المقالات من حيث المضمون والمقصود؛ فبعضها ركَّز على اكتشاف التفاصيل التاريخية لحرب سنة 1894، وبعضها الآخر، ناقش الترتيبات الحربية والاستراتيجيات العسكرية المختلفة بين الصين واليابان في هذه الحرب. لكنها جميعا حاولت بشكل او بآخر أن تجيب عن السؤالين التاليين: أولا، لماذا انهزمت الصين الضخمة وانتصرت اليابان الصغيرة؟ وثانيا، كيف تتجنب الصين في المستقبل أي ذل قومي أو عدوان جديد؟
بالنسبة إلى أسباب هزيمة الصين، اجتمعت المقالات على عدة خلاصات اولها تخلف النظام السياسي وفساد الإدارة. ذلك ان انتشار الفساد في النخبة الحاكمة ادى إلى ضُعف إدارة الإمبراطورية المركزية وجمود التطور والإصلاح السياسي فيها، اذ فشل الحكّام في التركيز على بناء القوات الدفاعية وتحديثها، بل اقترضوا أموالا من ميزانية سلاح البحرية لبناء حديقة إمبراطورية جديدة. أما اليابان وإبان تولي ال "مييجي" للعرش عام 1868، فقد شهدت تحولات سياسية واجتماعية جذرية شكّلت عمليا الإمبراطورية اليابانية الحديثة، والتي امتازت بالكفاءة الادارية، والتلاحم مع الشعب، والاعتماد على جيش متطور.
ثانيا، الافتقار إلى العلوم والتكنولوجية والاستراتيجية العسكرية الحديثة. حيث أشارت بعض المقالات إلى أن الصين قد اشترت من أوروبا سفنا حربية أحدث من السفن اليابانية، إلا أن قادة الجيش الصيني لم يستطيعوا تهيئة جيشهم وتنظيمه وإرشاده قبل الحرب وخلالها. بينما الجيش الياباني كان قد حُدّث تحديثا كاملا من حيث الأجهزة والاستراتيجية.
وثالثا، وهو الأهم، ضُعف تضامن الشعب الصيني وعدم وجود الوعي الوطني والروح القومية. وقد بلغ هذا الضعف درجات قصوى شبّهته بعض المقالات بـ "رمال متفشّية" لم تستطع أن تجتمع على دفاع الذات الجماعية وتطويرها.
ويتجلى من ما ذُكر أعلاه أنّ النقاشات حول حرب 1894 في كتاب "تأمّلات" ليست نقاشات تاريخية أو واقعية فحسب، بل محاولات تستغلّ الحدث التاريخي لرسم مستقبل الصين، وكأن حرب 1894 أصبحت رمزا لمصير الصين أمةً وحضارةً. والتي كانت احدى نتائجها بدء الثورات الصينية لإعادة تشكيل الروح القومية التي فقدتها أثناء الحرب. هذه المعاني الرمزية، هي التي حملتها جميع التحليلات والنقاشات في هذا الكتاب بكل أشكالها التاريخية أو الاستراتيجية.
بيد أن هذه الرمزية لم تأت من فراغ ولها أسبابها التاريخية ونوازعها الحالية. فحرب 1894 كانت أول مواجهة بين الصين واليابان بعد قيامهما بالتصحيح التحديثي لمجتمعيهما تأثرا بالغرب. في رأي الصينيين، ظلت اليابان تلميذا للحضارة الصينية خلال القرون الطويلة حتى منتصف القرن التاسع عشر. وبعد هزيمتها في الحرب، أعلنت الصين فشلها في سباق التحديث، وتبعها انتقال السيادة في شرق آسيا من الصين إلى اليابان.
ومجددا، ومع بدايات سنة 2014، عندما اشتد "العدوان الياباني الجديد" مع تحويل الولايات المتحدة مركز استراتيجيتها العالمية إلى آسيا والمحيط الهادئ، ثارت العواطف القومية ضد اليابان في الشوارع الصينية مرة أخرى. واستجابت الحكومة الصينية لهذه العواطف بحذر، حيث غذت القومية الصينية الفراغ الأيديولوجي الذي خلفه اضمحلال الشيوعية، وساعدت على تعزيز شرعية النظام الحاكم. وقد تختطف هذه القومية، إذا عظمت وشدّت، الرأي العام الصيني ليدعو الحكومة إلى مواجهات عسكرية لليابان، مما قد يؤدي إلى حرب إذا وافقت الحكومة، أو إلى اضعاف شرعيتها إذا رفضت. لكن الحكومة تميل الى الاستجابة للدعوات القومية في ميدان القلم والخطاب، ومن هنا تظهر قيمة حرب 1894 كمادة رمزية قابلة للاستغلال. وكذلك تأتي اهمية نشر هذا الكتاب، حيث يؤجج العواطف القومية ويمتصها لكن من دون الحاجة للجوء إلى مواجهات عسكرية غير ضرورية.
(باحث في الدراسات العربية والشرق أوسطية، كامبرج)