31 أكتوبر 2024
الروس لإسرائيل: الأمر لنا في سورية
لصبر الروس حدود. هم يستعجلون "الحل السياسي" في سورية بكل الطرق، ولكنهم لم يفلحوا حتى الآن. في إدلب، حاولوا أيضاً استعجال الضربات العسكرية، وإعادة بسط "القوات الشرعية" للنظام، كما فعلوا في حلب والغوطة ودرعا. وهنا أيضاً أحبِطوا، ولو مؤقتاً. هم يقودون في سورية إراداتٍ متضاربة، يلتفّون أحيانا، يناورون، يسقطون القنابل فوق الرؤوس السورية، يأخذون بخاطر الإيرانيين والأتراك والإسرائيليين، بنسبٍ متفاوتة. ويتضايقون، ينْذرون، يرفعون العصا.. ولكن "الجحود الإسرائيلي" لا يناسب تماماً طموحهم بتولّي الشأن السوري من ألفه إلى يائه، فكانت الفرصة الثمينة التي لا تعوّض: إسقاط طائرة روسية بنيرانٍ، اختلفت الروايات على مصدرها، لكن القرار الروسي الأعلى، أي العسكري في حالتنا، ارتأى أنها إسرائيلية، بعدما كان رئيس روسيا، بوتين، قد برّأ ذمّة إسرائيل، ونسبَ الحادث إلى "سلسلة مصادفات مأساوية"، فكان القرار العسكري بتزويد نظام بشار، الواقع أصلاً السلطة الروسية، بصواريخ إس - 300 المتقدمة، كان طالبَ بها منذ أربعة أعوام ولم يُستجب. والناطق باسم وزارة الدفاع الروسية، إيغور كوناشينوكوف، خفّف من وطأة هذه "الهدية"، بالإعلان أنه "تم سحب التشكيلات الموالية لإيران مع أسلحتها الثقيلة من مرتفعات الجولان، حتى مسافةٍ آمنة بالنسبة لإسرائيل، أكثر من 140 كلم تجاه الشرق في سورية". فيما وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، خصّص للخبر المفرح بإعلان آخر: من أن "الهدية" هذه ستضمن "الإدارة المركزية لجميع الدفاعات الجوية السورية"؛ أي إدارة روسية.
طبعاً، لا يمكن مقارنة ردة الفعل هذه بتلك التي أعقبت إسقاط طائرة روسية منذ ثلاثة أعوام
على يد القوات التركية. وقتها، قاطعت روسيا تركيا سياحياً، وقطعت هيئة الأركان الروسية جميع اتصالاتها العسكرية مع الجانب التركي، وأعلنت عن اتخاذها إجراءاتٍ عسكريةً في ساحل اللاذقية لتعزيز دفاعها الجوي، ونشرت منظومة إس 400 في قاعدة حميميم.. فتركيا ليست إسرائيل؛ لا هي دولة نووية، ولا الأتراك ذوو الأصول الروسية لهم حصّة في القرار الإسرائيلي، ولا يضاهى ثقلها العسكري بذاك الذي تتمتع به إسرائيل. حتى بوتين نفسه، في أول رد فعل له على إسقاط طائرته، قارن بين ردّتَي الفعل، وبرّر "اللطف" الروسي مع الإسرائيليين، بأن الأتراك يومها أسقطوا طائرته عن "سابق تصوّر وتصميم"؛ هذا قبل أن تغلب السردية العسكرية الجازمة بمسؤولية إسرائيل في إسقاط الطائرة الروسية أخيرا.
المهم أن تسليم صواريخ إس - 300 إلى بشّار، عقابا لإسرائيل على "إسقاط الطائرة الروسية"، يدخل ضمن منطق الحسابات الجيوسياسية التي باتت سورية تلخص مسرحها. وقوام هذه الحسابات أن الروس، الأقوى من جميع المتدخلين على الأرض السورية، باتوا على ثباتٍ في سيطرتهم العسكرية، يعطون هنا لإيران، هناك لتركيا، والأكثر لإسرائيل. سكوتهم الصارخ عن مئات الضربات الجوية التي قادتها القوات الإسرائيلية ضد مخازن (أو قوافل) السلاح الإيرانية، أو الحزبلهية، لا ينقصه دليل. ولكن الإسرائيليين، باعتيادهم على استباحة الأجواء المشرقية، لم يفهموا حتى الآن أنهم لم يعودوا الأقوى في المنطقة، ولا هم بمستقلي القرار بحروبهم. "جحودهم" تجاه الروس هو الترجمة الصريحة لهذا الغرور العسكري. وروسيا، مثل غيرها من أية قوة متحقِّقة على الأرض، تمكّنت من فرض "هيبتها" على الجميع. دلّلت إسرائيل بما تسمح بها قوتها هذه. ولكن إسرائيل لا يمكن أن تتمادى هكذا، كأنها في موقع الندّية مع الروس، المستعجلين، والمحبطين من عدم نجاح حلهم السياسي، بعد "الحل" العسكري. فصرخوا بوجه الإسرائيليين، بانضباط عسكري صارم: "في سورية، الأمر لنا..". كل حركةٍ ستكون تحت قيادتنا، باشراف عسكريينا وصواريخنا. هذا ما فعلوه مع الأتراك في عملية "تأجيل" الضربة أو "إلغائها" على إدلب، على الرغم من ألمهم بعدم تنفيذ هجومهم عليها، وفرحتهم بتعثّر الأتراك في تنفيذ البند المتعلق بالتنظيمات الإرهابية. بإشرافهم، يشارك عسكريوهم العسكر الأتراك في "حراسة" نقاط التماس بين أهالي إدلب وقوات بشّار. على الأرض، لم يَعُد الإيرانيون هم الملوك وحدهم. بين الجولان جنوباً وإدلب شمالاً، تتمدّد الشرطة العسكرية الروسية، وتأمر أيضاً.
وفي هذه الأثناء، يحتفل الممانعون بـ"الهدية" الروسية إلى بشّار بصفتها "تعزيز القدرات الدفاعية السورية"، وبأوهام "سيطرة السوريين أنفسهم على المنظومات الدفاعية"، أو صواريخ ستكون وظيفتها "أداة بناء قدرات الجيش السوري"، وبأن "الهدية" تصبّ "في مصلحة المقاومة"؛ فالممانعون دائماً منتصرون.
في مقابل تواضع الممانعين، انظر إلى إسرائيل، الخاسرة بالتأكيد بعد إسقاط الطائرة الروسية، تتباكى عند الأميركيين، وتطلب منهم دعمهم، فيتجاوبون، بتصريحاتٍ متعاطفةٍ، تنبىء بالمزيد. والآن، فهم نتنياهو ربما الموضوع، واستوعب الصفعة، فأعلن، في مؤتمر صحافي صاخب،
منذ يومين في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أن لحزب الله ثلاثة مخازن أسلحة: في منطقة الأوزاعي، وتحت مدينة كميل شمعون الرياضية، وفي موقعٍ ثالثٍ محاذٍ لمطار بيروت؛ وكلها نقاط في قلب العاصمة بيروت. وكأنه يبتزّ: أما وأن يديه قد كُتِّفتا في سورية، فيمكنه أن يطاول قلب العاصمة بيروت؛ أي الدولة اللبنانية بأسرها، وليس فقط حزب الله، كما لمح سابقاً، هو وكبار ضباطه. وهو هنا، بإعلانه عن وجود الصواريخ، لا يفعل سوى ما يردّده حسن نصر الله ومعه أنصاره بأن صواريخ حزبه صارت أدقّ وأكثر عدداً، وفي وسعها أن تفعل كذا وكيت في العمق الإسرائيلي؛ مذكّرا بصدّام حسين، عشية الغزو الأميركي للعراق (2003)، الذي كان ينفخ صدره اعتزازا بقوته العسكرية الكاذبة.
أما الملعب الثاني، أصل الموضوع كله، فهو الفلسطينيون. "صفقة القرن" (أو العصر) يمكن أن تمرَّر تعويضا مجزيا لإسرائيل عن تحولها إلى قوة ثانية في سورية بإمرة الروس. والأميركيون، الضبابيون في سورية، الواضحون في إسرائيل، جاهزون لصفقتهم، متحمّسون لإحالتها الحقوق الفلسطينية إلى أدراج النسيان. ولكن، بما أنهم لم يعودوا وسيطاً "عادلاً ونزيهاً" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبما أن الرئيس الأميركي أخرج نفسه من الشرق الأوسط، فقد تتحوّل "صفقة القرن" إلى عملية حسابية روسية، تحتل فيها روسيا مكانة "الوسيط العادل والنزيه"، فتبسط مزيدا من النفوذ الروسي في المنطقة. وساعتها، سوف يغرف الروس من تاريخهم السوفياتي المجيد تراث "صداقتهم للشعوب" و"مقارعتهم الإمبريالية"، فيزوّدوا جوقاتهم بالتهليل اللازم لتمكّنهم من تقرير مصير المشرق بأسره.
طبعاً، لا يمكن مقارنة ردة الفعل هذه بتلك التي أعقبت إسقاط طائرة روسية منذ ثلاثة أعوام
المهم أن تسليم صواريخ إس - 300 إلى بشّار، عقابا لإسرائيل على "إسقاط الطائرة الروسية"، يدخل ضمن منطق الحسابات الجيوسياسية التي باتت سورية تلخص مسرحها. وقوام هذه الحسابات أن الروس، الأقوى من جميع المتدخلين على الأرض السورية، باتوا على ثباتٍ في سيطرتهم العسكرية، يعطون هنا لإيران، هناك لتركيا، والأكثر لإسرائيل. سكوتهم الصارخ عن مئات الضربات الجوية التي قادتها القوات الإسرائيلية ضد مخازن (أو قوافل) السلاح الإيرانية، أو الحزبلهية، لا ينقصه دليل. ولكن الإسرائيليين، باعتيادهم على استباحة الأجواء المشرقية، لم يفهموا حتى الآن أنهم لم يعودوا الأقوى في المنطقة، ولا هم بمستقلي القرار بحروبهم. "جحودهم" تجاه الروس هو الترجمة الصريحة لهذا الغرور العسكري. وروسيا، مثل غيرها من أية قوة متحقِّقة على الأرض، تمكّنت من فرض "هيبتها" على الجميع. دلّلت إسرائيل بما تسمح بها قوتها هذه. ولكن إسرائيل لا يمكن أن تتمادى هكذا، كأنها في موقع الندّية مع الروس، المستعجلين، والمحبطين من عدم نجاح حلهم السياسي، بعد "الحل" العسكري. فصرخوا بوجه الإسرائيليين، بانضباط عسكري صارم: "في سورية، الأمر لنا..". كل حركةٍ ستكون تحت قيادتنا، باشراف عسكريينا وصواريخنا. هذا ما فعلوه مع الأتراك في عملية "تأجيل" الضربة أو "إلغائها" على إدلب، على الرغم من ألمهم بعدم تنفيذ هجومهم عليها، وفرحتهم بتعثّر الأتراك في تنفيذ البند المتعلق بالتنظيمات الإرهابية. بإشرافهم، يشارك عسكريوهم العسكر الأتراك في "حراسة" نقاط التماس بين أهالي إدلب وقوات بشّار. على الأرض، لم يَعُد الإيرانيون هم الملوك وحدهم. بين الجولان جنوباً وإدلب شمالاً، تتمدّد الشرطة العسكرية الروسية، وتأمر أيضاً.
وفي هذه الأثناء، يحتفل الممانعون بـ"الهدية" الروسية إلى بشّار بصفتها "تعزيز القدرات الدفاعية السورية"، وبأوهام "سيطرة السوريين أنفسهم على المنظومات الدفاعية"، أو صواريخ ستكون وظيفتها "أداة بناء قدرات الجيش السوري"، وبأن "الهدية" تصبّ "في مصلحة المقاومة"؛ فالممانعون دائماً منتصرون.
في مقابل تواضع الممانعين، انظر إلى إسرائيل، الخاسرة بالتأكيد بعد إسقاط الطائرة الروسية، تتباكى عند الأميركيين، وتطلب منهم دعمهم، فيتجاوبون، بتصريحاتٍ متعاطفةٍ، تنبىء بالمزيد. والآن، فهم نتنياهو ربما الموضوع، واستوعب الصفعة، فأعلن، في مؤتمر صحافي صاخب،
أما الملعب الثاني، أصل الموضوع كله، فهو الفلسطينيون. "صفقة القرن" (أو العصر) يمكن أن تمرَّر تعويضا مجزيا لإسرائيل عن تحولها إلى قوة ثانية في سورية بإمرة الروس. والأميركيون، الضبابيون في سورية، الواضحون في إسرائيل، جاهزون لصفقتهم، متحمّسون لإحالتها الحقوق الفلسطينية إلى أدراج النسيان. ولكن، بما أنهم لم يعودوا وسيطاً "عادلاً ونزيهاً" بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وبما أن الرئيس الأميركي أخرج نفسه من الشرق الأوسط، فقد تتحوّل "صفقة القرن" إلى عملية حسابية روسية، تحتل فيها روسيا مكانة "الوسيط العادل والنزيه"، فتبسط مزيدا من النفوذ الروسي في المنطقة. وساعتها، سوف يغرف الروس من تاريخهم السوفياتي المجيد تراث "صداقتهم للشعوب" و"مقارعتهم الإمبريالية"، فيزوّدوا جوقاتهم بالتهليل اللازم لتمكّنهم من تقرير مصير المشرق بأسره.