لم يَكَدْ يمر شهر على صدور العمل الروائي الجديد "عُلْبَة الأَسماء" للشاعر المغربي محمّد الأشعري، وما إِن وصَلَتْ أُولى النُّسخ، حتى تَحلَّقنا حول الكاتب الذي دَأَبْنا على مداعَبَته بصفة تَوْقيرٍ صديقةٍ، "معالي الشاعر"، تليق به وتلائم مبدعاً حقيقيّاً يعيش نجاحَهُ الأَدبي بتواضع أنيق.
ازدحمنا في القاعة الكبرى للمكتبة الوطنية في الرباط، في حضور بَدَا مكثَّفاً ونوعيّاً، كي نحتَفي بنص مغربي جديد، وكي نستقبل نصّاً يعزّز الترسانة الروائية المغربية التي "تظل نُصُوصُها الكبرى نادرة"، كما قال الناقد د. سعيد يقطين ذلك المساء، وله الحق في ما قال. ففي رأْيِهِ، هناك روائيون مغاربة يكتبون بشكل جيد فيما تَنْقصهم تجربة حقيقية (في الحياة وفي الواقع، كما يقصد). وهناك روائيون يمتلكون تجربة حياة خصبة، لكنهم لا يعرفون كيف يكتبونها. وبهذا المعنى، احتَفَلْنا بنصّ روائي توفَّرت له التجربة الثَّرَّة والكاتب الجيد الموهوب الذي – لحسن الحظ – لم تَنْأَ به الممارسة السياسية الطويلة (وكذا عبوره القوي والمؤثر على رأس وزارة الثقافة في بلادِهِ) عن شَرْطِهِ الإِبداعي، الشِّعْري والسَّرْدي.
ومع أَن الأَشْعَري لم يتوقَّف أَبداً، في أَيِّ مرحلة من مراحل حياته، عن الكتابة والنَّشْر، مع أَنه حَرِصَ دائماً على تَوَازُنٍ مُعَيَّن بين التزامه السياسي والتزامه الأَدبي، فإِنه انْتَبَه دائماً إِلى مسألة أَساسية، أَن "الأَدب الملتزم" هو الذي يَكْتُبُه "أدباء ملتزمون" دون أن يكون أدباً بالضرورة. ومن ثم مارس التزامه السياسي بخطابٍ مُنَظَّم، وإِذَنْ بنَصٍّ. وذلك ما سبق للفيلسوف الفرنسي جاك دِيرِّيدَا أن تحدث عنه كتوجه جديد من الالتزام السياسي إِلى سياسة داخلية للكتابة.
إِن الكتابة أَساسية جدّاً في الإِحاطة بالشأن السياسي والتفكير فيه، خصوصاً أن الفعل الشَّفَوي – كما نعرف – ظل دائماً جزْءاً من ممارساتنا السياسية ومُعَبِّراً عنها. ولكنه ظَلَّ في نَفْسِ الآن يُسَطِّحُ الخطاب السياسي، يُفْقِرُهُ ويجعَلُه مكروراً وبلا ذاكرة. والأَشْعَري بهذا المَعْنَى، مارس السياسة بالكتابة، أي بعقلية الكتابة وطقوسها وأَخلاقها وهَيْبَتِها. لم يمارسْها أَبداً كمحترف أو كبهلوان أو كَمَافْيُوزِي من قبيل بعض هؤلاء الذين اصطدم بهم في الحزب أو في أَرْوِقَة الدولة، فنَأَى بنَفْسِهِ عائداً إِلى مَطْهَر القصيدة ومغامرة الكتابة السَّرْدية.
وها هي روايته "عُلْبَةُ الأَسْمَاء"، عَمَلُه الجديد الغاضب، تأْتي مُسْتَحِمَّةً في الموسيقى والغِنَاء والمعمار والنَّقْش والحَفْر، عبر لغة مشدودة شِعْرياً عالية الأَناقة والذكاء، حادة المزاج، جريئة في إِعلان صرخة الشاعر الحقيقية التي كَتَمَها طويلاً في طَيَّاتِ رُوحِهِ، وذلك في أفق مراجعةِ مرحلةٍ كان المغاربة مُجْبَرين على تَقْديسِها قبل أن يَرَوْها تتهاوى سريعاً في سياق التحولات السريعة.
إِنها رواية لا يتَخلَّى فيها الأَشعري عن رأْفَته كشاعر والتزامه الجمالي ككاتب، أي أنه لا يُساوم ولا يَتفاوض حول ما تقتضيه كيمياء الكتابة وسيرورة بناء النص. قد تغدو المَشَاعِرُ متأخرة، في سياق ملحمي كهذا، ولكن معركة كهذه لم يَفُتْ أَوَانُها ولا ضرورتُها. إنها أوقات تحتاج فيها الذات الكاتبة لِتَنْجُوَّ من قذارات المرحلة حيث، "لا تنتبه مطلقاً إِلى الله والوطن والملك"، بتعبير باتريسيا غرايس في روايتها (تْيُو Tu)، وحيث يَتَوَلَّى الكاتب مسؤولية الحكي نيابةً عن أناس مطعونين كشهداء في ملصقات الحزب "كبرَت عليهم الحكاية" !
الجُمْلَة الشِّعْرية وحدها هي "وحدة القياس" في هذه الرواية، في قيمتها وفي نجاحها الذي يَبُزُّ الجملة النَّثْرية التي اسْتَنْزَفَتْها الرداءة في المغرب. وأرى أن الأَشْعري في روايته هذه، كمن يركُضُ تحت مَطَرٍ سَاخِنٍ محتفياً معنا بزمن الرواية الجيدة في المغرب..، الزمن الذي يُشَيِّدهُ الشُّعَراء فيما يبدو.
إنها رواية تستحق أن تُقْرأ. كما أن أَصواتها المتعددة جديرة بأَن يُنْصَتَ إِليها.