لم تعد الملكية في المغرب توجه الحكومة، وتفرض أوامرها كما كان سابقاً، هذا ما يراه الباحث المغربي، فريد الزاهي، في حواره لـ"العربي الجديد". ففي معرض إجابته عن خمسة أسئلة عن الربيع العربي وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وتجربة الإسلاميين في الحكم، يؤكد أن الأخطار المحيطة بالمغرب ومحيطه كثيرة، خصوصاً في ظل انتكاسات ثورات الربيع العربي.
* هل ساهم الربيع العربي في نسخته المغربية في تبدّل تعاطي الشباب مع الشأن العام في مختلف أبعاده، أم أن حالة الانكسار طغت على حقبة ما بعد الحراك؟
لا يُمكن الاستخفاف بنتائج الربيع العربي في مختلف أشكاله، فقد منح الشباب عموماً فرصة الفعل السياسي، في الوقت الذي كان فيه الشباب الجامعي والحزبي فقط يمارس هذا الفعل. من ناحية أخرى، اتحدت في الحركة تيارات متباينة الخلفيات، وفقاً لأهداف مختلفة، ومتعددة استراتيجيّاً، وذلك للمرة الأولى في تاريخ البلاد.
ثمة معطيان يحدّدان علاقة الشباب المغربي بالتسييس في الوقت الراهن: الأول يتعلق ببارقة الأمل التي زرعتها حركية الاحتجاجات هنا وهناك ولفترة معينة، والثاني يتعلق بالتحولات التي نجمت عنها. وهذا المعطى كان وراء الجموح السياسي الذي تُرجم بعودة اهتمام الشباب المغربي والعربي عموماً بالشأن السياسي والرغبة في المساهمة الفعالة فيه.
بيد أن هذا المعطى لم يكن في حقيقته، سوى الوجهة الإيجابية من الأمر، إذ إن الانتكاسة التي عرفتها الثورات العربية خلقت ارتداداً كبيراً لدى الشباب التقدمي، كما استولدت تحولاً كبيراً لدى الشباب السلفي. فإذا كانت العديد من الفصائل السلفية قد التزمت لوقت طويل بالدعوة من غير انخراط سياسي، فإن انخراطها في السياسة هو ما كان بشكل أو بآخر وراء نجاح الإسلاميين في الوصول إلى السلطة في الانتخابات الأخيرة.
* كيف تقيّم ما جرى خلال هذه المدة التي امتدت من حكومة عبد الرحمن اليوسفي إلى حكومة عبد الإله بنكيران، من تحولات سياسية واجتماعية، وأثر ذلك على مصداقية الفعل السياسي؟
كانت تجربة التناوب فرصة ذهبية لليسار لتجريب السلطة وفي الوقت عينه مكيدة، لم يكونوا مستعدين لها من جهة، ولم تكن توفر لليسار و"الاتحاد الاشتراكي" خصوصاً ما يمكّنه من فرض وجوده. صحيح أن الوزارات القوية ظلت في يد التكنوقراط وأن هذا الانفصام في جسم السلطة جعل التوازنات التدبيرية والتسييرية والاستراتيجية عصية على البلورة بل حتى على التبرير.
بيد أن المشكلة لم تنحصر في هذا الإطار فقط، بل تمثلت أيضاً في الانحسار والضغط الذي وجدت الكتلة الديمقراطية (المكوّنة من أربعة أحزاب: الاتحاد الاشتراكي، والاستقلال، والتقدم والاشتراكية، ومنظمة العمل) نفسها فيه، والذي حدّ من حريتها في التفكير والتخطيط والممارسة.
الأمر الذي لم تكن تعيشه بالحدّة نفسها، وهي لا تزال خارج الحكم. أما ما حدث فيما بعد فقد ارتهن بالتطورات السياسية التي عرفتها البلاد، مع خيبة الأمل في التناوب والضربات الإرهابية التي ضربت المغرب، وتنامي المدّ الإسلامي. وبدا هذا الواقع الجديد يلوح في الأفق مع نتائج انتخابات 2007.
وما يمكن قوله باختصار، هو أن دور النخب السياسية خبا منذ تجربة 1998، والفروق السياسية بين الأحزاب باتت شكلية، والمجال السياسي صار أرخبيلاً، بعد أن كانت رغبة تجربة التناوب تكمن في خلق استقطابات في اليمين واليسار، عبارة عن أحزاب كبرى، أو على الأقل عن كتلتين كبرييْن. والدليل على تراجع أدوار الأحزاب السياسية، هو أن "الحزب الإسلامي" نفسه، ولو أنه حظي بما لم يحظ به "الاتحاد الاشتراكي" في 1998، يعيش التشرذم والتناقضات الداخلية التي تضعضع صفوفه قبل أي استحقاق.
* تحاول الملكية في المغرب القيام بدور تحكيمي، كيف يمكن أن يكون هذا الدور فاعلاً في جعل المجال العام رهناً لاختيار المواطنين الحر، بعيداً عن أي توجيه للدولة؟
بعد أن كانت الملكية تلعب دوراً توجيهيّاً، صارت تلعب دوراً تحكيميّاً لا يعني أنه يتعزّز مع ضعف قوة الأحزاب السياسية من جهة وعدم تطور اللغة السياسية واستراتيجيات الأحزاب من جهة أخرى. إنها ملكية تجد نفسها أمام أحزاب ذات سياسة متوقَّعة، ولا تتمتع بعنصر المفاجأة مما يجعل أمر تدبير خلافاتها أمراً بسيطاً. بل إن الهيئات السياسية نفسها، تمنح للملكية هذا الدور لتعزيز مشروعيتها. فرئيس الحكومة يعتبر نفسه وزير الملك والأحزاب نفسها في خدمة الملكية. هذه الموضة الجديدة التي دأبنا في السنوات الأخيرة على ملاحظة تجذّرها تعتبر نقصاً لا يسمح بتطوير الملكية نفسها كي تتجاوز بعضاً من عناصرها الأكثر "مخزنية"، وكي تتخلى عن طبيعتها كمرجعية سياسية مطلقة.
* الآن، وفي ظلّ خطر تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) الذي يحيط بالبلاد العربية، هل تقدّر أن تسلّم حزب مثل "العدالة والتنمية" الحكومة، يشكّل علامة اعتدال وخياراً صحيحاً من خلال إدماج جزء من الإسلاميين المعتدلين في العملية السياسية؟
خطر "داعش" ليس خارجيّاً فقط، بل هو داخلي. ولا أدلّ على ذلك من العدد الهائل للمغاربة في صفوف "داعش" في سورية والعراق وفي المغرب أيضاً. وما دامت هناك سلفية تمارس السياسة، فخطر الانحراف الجهادي الراديكالي وارد.
من ثم، فما دام حزب "العدالة والتنمية" يضبط داخليّاً محرراً إيمانه بالديمقراطية، وما دامت التجربة التي يخوضها على رأس الحكومة لا تفقده هويته تماماً، فإنه يخدم ذاته والحكومة التي يندرج في إطارها. والمحلل السياسي يشعر بالتأكيد بالحيرة والحرج اللذين يعيشهما هذا الحزب الذي يعيش مفارقة متعددة الجوانب. فهو من جهة يؤكد قوته وسلطته بممارسة السلطة، ومن جهة ثانية يعيش اختبار وجوده وكيانه ومبادئه بشكل يومي على محك التجربة، ويرى أوهامه تتبدد الواحد تلو الآخر من يوم لآخر.
وهذه الوضعية هي ما يعزز دور السلطة الملكية ويمنحها مصداقية أكثر. الحكمة في الأمر هي أن المغرب صار يقدم نفسه باعتباره نموذجاً قويّاً في الساحة العربية والإسلامية والإفريقية للتوازن بين الإسلام والتدبير السياسي للحكم. وهو أمر صعب تدبيره داخليّاً لأنه رهان يتطلب في الآن نفسه الكثير من الحرية والديمقراطية وليس الأقل من حسن التدبير والحصافة السياسية، وإلا سيغدو الحكم في المغرب ضحية اختياراته نفسها.
* هل تعتقد، من موقعك كباحث، أن فرص تطوّر المغرب المتعدد والمنفتح قائمة وقابلة للتحقق في ظلّ معطيات الحاضر؟
سؤال محير، لأن الأمر لا يتعلق فقط بالرغبة السياسية والاستراتيجية وبالآمال. الحقيقة أن المغرب يواجه في هذا المضمار تحديات متشابكة، تبدأ بإيقاع التنمية الذي لا يزال في أدنى مستوياته. وبرهاناته على الثروة الرمزية، لا يُمكنه أن يحلّ المشكلة لأن تحويل الرمزي إلى مادي يتطلب وقتاً واستراتيجيات تنموية مغايرة، لسنا مؤهلين بعد لممارستها. وتمتد تلك التحديات إلى المشكلات الدفاعية التي تمتص الميزانية، وإلى مشكلات التعليم التي أُهدرت فيها الأموال، وإلى مجالات أخرى عدة. ثمة إمكانيات كثيرة لدى هذه البلاد، لكن التوافقات السياسية والاقتصادية وفي مجال الأخلاقيات (أي سيادة الرشوة والمحسوبية وعدم الشفافية) لا تزال تشكل عائقاً يخفض من إيقاع التوجه نحو بناء الحاضر على الأقلّ.